وقد عبّر ابن خزيمة ([17]) - رحمه الله - على وجه الاستدلال بهذا الحديث على عدم وجوب السجود بقوله في صحيحه: (باب: ذكر الدليل على أن السجود عند قراءة السجدة فضيلة لا فريضة، إذ النبي صلى الله عليه وسلم سجد وسجد المسلمون معه والمشركون جميعاً؛ إلاَّ الرجلين اللذين أرادا الشهرة، وقد قرأ زيد بن ثابت عند النبي صلى الله عليه وسلم {النجم} فلم يسجد، ولم يأمره عليه السلام، ولو كان السجود فريضة؛ لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها، ولولم تكن في {النجم} سجدة؛ كما توهم بعض الناس ... لما سجد النبي صلى الله عليه وسلم في {النجم}) ([18]) ا هـ.
وقال البغوي - رحمه الله - بعد أن ذكر حديث زيد السابق: (فيه دليلٌ على أن سجود التلاوة غيرُ واجب، إذ لو كان واجباً لم يتركِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم زيداً حتى يسجد) ([19]) ا هـ.
وأمَّا القواعد العلمية التي ترجح القول بعدم الوجوب، فقد أشار إليها ابن عبدالبر بقوله: (فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضاً؛ لأن الله لم يوجبه ولا رسوله ولا اتفق العلماء على وجوبه، والفرائض لاتثبت إلاَّ من الوجوه التي ذكرنا، أو ماكان في معناها، وبالله توفيقنا) ([20]) ا هـ.
وقال في موضع آخر - بعد ذكره للأثرين عن عمر وابنه -: (أي شيء أبين من هذا عن عمر، وابن عمر، ولا مخالف لهما من الصحابة فيما علمت، وليس قول من أوجبهما بشيء، والفرائض لاتجب إلاَّ بحجة لا معارض لها - وبالله التوفيق) ([21]) ا هـ.
وإذا تقرر هذا علمنا أن القول الراجح في حكم سجود التلاوة هو الاستحباب، فسجود التلاوة مسنون وليس واجباً، وهذا هو قول جمهور العلماء - والله تعالى أعلم -.
ويتعلق بهذا المبحث مسألتان:
المسألة الأولى: هل يلزم المستمع السجود إذا سجد القارئ؟:
قال ابن عبدالبر في الكافي: (والسجود سنة للتالي وللسامع إذا كان جالساً إليه، وليس بواجب على واحد منهما وجوب فرض، ولكن سنة كما ذكرنا، وهو على التالي أوكد من المستمع إلاَّ أن يكون التالي إماماً فيشتركان في ذلك) ([22]) ا هـ.
مِمَّا سبق يتبين أن ابن عبدالبر يرى أن السجود سنة للتالي والسامع إذا كان جالساً إليه، أي إذا كان قاصداً للسماع، وهو من يعبر عنه العلماء بالمستمع.
وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر هو مذهب الحنابلة والشافعية والمالكية.
وذهب الحنفية إلى وجوب ذلك على القارئ وعلى من سمعها، سواء قصد ذلك أم لا ([23]).
واحتج من قال بأن المستمع يسجد إذا سجد القارئ بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضعاً لجبهته ([24]).
هذا إذا سجد التالي، أمَّا إذا لم يسجد التالي فإن المستمع لايسجد؛ لأن سجودَ المستمع تبع لسجود القارئ، فالقارئ أصل والمستمع فرع ([25]).
قال البخاري في صحيحه: (باب: من سجد لسجود القارئ. وقال ابن مسعود: لتميم بن حَذْلَم، وهو غلام، فقرأ عليه سجدة، فقال: اسجد فإنك إمامنا فيها) ([26]) ثُمَّ ذكر حديث ابن عمر السابق.
قال ابن حجر: (وفي الترجمة إشارة إلى أن القارئ إذا لم يسجد لم يسجد السامع) ([27]) ا هـ.
وقال البغوي في شرح السنة: (والسنة للمستمع أن يسجد بسجود التالي، فإن لم يسجد التالي فلايتأكد في حقه. قال مالك والشافعي: إذا لم يكن قعد لاستماع القرآن، فإن شاء سجد، وإن شاء لم يسجد) ([28]) ا هـ.
قال عثمان - رضي الله عنه -: إنَّما السجدة على من استمعها ([29]).
وقولُ ابن عبدالبر: (وهو على التالي أوكد من المستمع، إلاَّ أن يكون التالي إماماً فيشتركان في ذلك) فيه نظر؛ لأن التالي إذا كان إماماً في الصلاة وسجد فإنه يتعين على المستمع أن يسجد وجوباً متابعة لإمامه؛ لأن متابعة الإمام واجبة ([30]).
وبهذا نعلم أن سجود المستمع في هذه الحال أوكد من سجود التالي، فسجود التالي سنة، وسجود المستمع في الصلاة واجب.
المسألة الثانية: حكم سجود التلاوة في أوقات النهي:
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - وهو يشرح قول مالك في الموطأ: (وأمَّا قوله: لاينبغي لأحد يقرأ من سجود القرآن شيئاً بعد صلاة الصبح، ولا بعد صلاة العصر.
¥