تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وسلم شيئا من التنزيل بمقتضى الجبلة البشرية فالحفظة خلفه يذكرونه، وذلك أمر حاصل في كل عصر ومصر من لدن نزل الكتاب العزيز على قلب النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى أن يرفعه الرب، جل وعلا، من الصدور والسطور آخر الزمان.

ثم جاء التذييل بـ: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى: فمناسبتها لما قبلها، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، أن الرب، جل وعلا، يعلم الجهر من الآي المحكم وما يخفى من المنسوخ الذي أنسيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذلك بمنزلة التعليل لما قبله، فصدر بالمؤكد الناسخ على جهة الفصل فلا عاطف مئنة من التعليل لشبه كمال الاتصال بين الآيتين، وجاء المسند مضارعا مئنة من التجدد والاستمرار فذلك مئنة من العموم فلا يقتصر علمه على ما ظهر وخفي من أمر التنزيل فقط، بل يعم كل ما يظهر ويخفى من أقوال وأفعال البشر، فيكون ذلك جار مجرى ما تقدم في أكثر من موضع، من تفسير العام بذكر فرد من أفراده على سبيل التمثيل تنويها بذكره، فالتنزيل من عظم الشأن ونباهة الذكر بمكان، فاختص بالحكم في هذا السياق، لقرينة: (سنقرئك): فهو ينصرف بداهة إلى التنزيل، ولا يمنع ذلك من عموم الوصف، فعلم الرب، جل وعلا، محيط بكل الكائنات، فعلم بعلمه الأزلي الأول سائر المقدورات على جهة التفصيل فيعلم المجمل والمبين، الكلي والجزئي، وعلمه الثاني: إظهار للمقدور الأول، فيقع في عالم الشهادة كما قد قدر في الأزل وسطر في اللوح بالقلم، فذلك علم متجدد باعتبار تعلق وصف الرب، جل وعلا، بالعلم المحصي للأقوال والأفعال به، فيتجدد التعلق بتجدد ظهور المعلوم في عالم الشهادة فذلك وجه المضارعة في المسند: "يعلم"، وفي السياق توكيد بتكرار الفاعل معنويا هو الضمير المتصل بـ: "إن"، فاسم "إن" مسند إليه وهو فاعل في المعنى وإن لم يكن فاعلا في اللفظ، ولفظيا مستترا في المسند: "يعلم"، وعلى ما تقدم من خصوص السياق بالكتاب العزيز تكون: "أل" في: "الجهر": عهدية تشير إلى معهود بعينه هو ما ظهر وأحكم من التنزيل، وعلى العموم الثابت في نصوص أخرى من قبيل: (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا)، تكون: "أل" جنسية تستغرق عموم ما دخلت عليه، فيعلم، جل وعلا، كل جهر، بعلمه المحيط بكل الأعيان والأقوال والأفعال، ويؤيده عطف ما يخفى بصيغة الموصول: "ما" فهي نص في العموم، كما قرر أهل الأصول، فتعم العاقل وغير العاقل على هذا التأويل لقرينة عموم إحاطة علم الرب، جل وعلا، لكل كائن في هذا العالم.

ثم جاء الإطناب في بيان أوجه المنة الربانية على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:

وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى: فيسر صلى الله عليه وعلى آله وسلم للشريعة الحنيفية السمحة، فهي اليسرى، بتيسير أسبابها، فيكون ذلك جار مجرى ما تقدم في أكثر من موضع من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، ووجه تأويلها بـ: "الشريعة": يصير: "أل" في "اليسرى" عهدية تشير إلى معهود بعينه لقرينة الامتنان عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإقرائه التنزيل، فذلك من مقتضيات منصب الرسالة، ومنصب الرسالة يقتضي بدوره نزول الشريعة الجامعة لكل أحكام المكلفين: عبادات كانت أو معاملات أو سياسات أو أخلاق، فالشريعة قد عمت كل أحوال العباد فعمومها وجه عناية آخر بالنوع الإنساني، فحصل بيان المنة الخاصة بتيسيره صلى الله عليه وعلى آله وسلم للشريعة اليسرى فهو أول من آمن بها فقد نزلت عليه ابتداء، فذلك من قبيل الإقراء له، فهو أول من جمع التنزيل في صدره، ثم حصل بيان المنة العامة بالأمر بالتذكير فذلك لازم نزول التشريع فلم ينزل الوحي لتحويه صدور فتمنع قطر الوحي النافع عن محال الجدب في قلوب الغافلين، بل نزل ليعم نفعه ويسود حكمه فتصير النفوس دورا للإسلام والإيمان بعد أن كانت دورا للكفر والعصيان، فبحجة الوحي وبرهانه فتحت القلوب، وبسيف الشرع وسنانه فتحت البلدان، فساد الإسلام باطنا وظاهرا.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 04 - 2010, 08:15 ص]ـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير