تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولم يرتض صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، دلالة الكلام بمفهومه في هذه الآية، إذ ذلك مما لا يعلمه الداعي، فلا أحد يعلم رد فعل المدعو، ليذكر متى علم قبول المدعو، ولا يذكر إن لم يعلمه، فذلك جار مجرى قوله تعالى: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)، فإن ذلك لا يعني بداهة اقتصار التذكير على من يخاف الوعيد، فيفيد الكلام بمفهومه عدم وجوب تذكير من لا يخاف الوعيد فيكون قد خرج بذلك من التكليف، فهذا معنى باطل بداهة، لعموم التكليف، فهو عام فيمن يستجيب ومن لا يستجيب، ومن يخاف ومن لا يخاف، فيكون للأول: بيانا وإرشادا، وتوفيقا وإلهاما فذلك قدر زائد يختص به المؤمن الموفق، ويكون للثاني: بيانا وإرشادا تقوم به الحجة الرسالية عليه، فلو كان للكلام مفهوم لبطلت الحجة الرسالية في حقه إذ لم يتوجه الأمر بتذكيره ابتداء، ومثله قوله تعالى: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ)، فلا يعني ذلك، أيضا، أن موتى القلوب لا يتوجه الأمر بتذكيرهم، فذلك لو صح لقامت لهم حجة فـ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فالشاهد في آية الأعلى: توجه الأمر بتذكير من تنفعه الذكرى ابتداء، ولا يعني ذلك عدم تذكير غيره، بل قد خص بالذكر لكونه مظنة الانتفاع، بخلاف من لا تنفعه الذكرى، فتوجه الخطاب بتذكير من تنفعه الذكرى لا يعني عدم دخول غيره فيه، بل عموم الذكرى يشمل كليهما، فإذا خص من هو مظنة الاستجابة بالذكر فذلك تنويه بشأنه، فالامتثال للوحي مظنة المدح، فلا يخصص العام بذكر فرد من أفراده، كما تقدم، ويؤيده دلالة: "إن" الشرطية على ندرة وقوع الفعل، فيكون التذكير نادرا، فالأصل عدم التذكير فـ: (مَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، وذلك تعطيل لمنصب الرسالة، بامتناع التذكير، ولو على سبيل البيان والإرشاد، لعموم المكلفين، فـ: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، فيحمل وجه التشابه في هذه الآية إن كان فيها وجه تشابه على محكم آيات عموم البلاغ والتذكير، على ما اطرد من طريقة المحققين من أهل العلم من حمل المتشابه على المحكم، فيرد الأول إلى الثاني، فيزول الإجمال ويرتفع الإشكال.

ويؤيده أيضا: حذف معمول فعل التذكير فذلك مئنة من العموم، فذكر بلا تخصيص بعض دون بعض، فذلك جار على ما تقرر من عالمية الرسالة الخاتمة، فجاء التذكير ابتداء للعشيرة الصغرى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، ثم لأجوارها: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)، ثم لعموم المكلفين: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)، و: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا). فلا تعارض بينها، إذ السياق غير حاصر، فإنذار العشيرة لا يمتنع معه إنذار الأجوار، وإنذار الأجوار لا يمتنع معه إنذار العالمين.

ولأصحاب القول الأول أن يحتجوا بأن أمارات الاستجابة أو عدمها تظهر على المدعو، فيكون المفهوم صحيحا، على تأويل: فذكر إن غلب على الظن من حال المدعو استجابته، فإن لم يغلب على الظن ذلك لعظم ضلاله وفحش مقاله فليس عليك تذكيره، ولذلك كان السلف، رحمهم الله، يمنعون العلم من ليس له بأهل، فذلك من السفه، إذ الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، فكما أن الباري، جل وعلا، لا يضع الهدى إلا في المحال القابلة له، فكذلك الداعي إليه حري به أن يتشبه به في هذا الوصف، فذلك مما يصح تشبه العبد بالرب، جل وعلا، فيه، وإن لم تكن حكمة الخالق، عز وجل، من حكمة المخلوق، بداهة، فليس بينهما، كما تقدم مرارا، إلا الاشتراك في المعنى الكلي المطلق، فحري به ألا يضع الذكرى إلا في الموضع الذي يغلب على ظنه حصول النفع منه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير