تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى: فذلك أيضا مما يشهد للمعنى الثاني فلن ينتفع بالذكرى إلا من يخشى، فذلك مظنة الاختصاص، فالمفهوم معتبر في هذا الموضع، فلن ينتفع بالتذكير من لا يخشى الباري، عز وجل، وحال مثله لا تخفى غالبا فيكون غيره ممن يظن فيه الخير أولى بالتذكير فـ: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)، فعاتب الرب، جل وعلا، نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ اجتهد فرأى المصلحة في عرض أمره على سادة قومه علهم يتذكرون فيحصل بذلك من الانتفاع لدعوة الحق ما يحصل، فقدمهم على طالب الهداية، فقد سعى إليه، فهم مظنة الإعراض وهو مظنة الإقبال، فكان أولى بالتذكير منهم، فعاتب فيه الرب، جل وعلا، نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ فعل خلاف الأولى، والوحي لا يقر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على المفضول فيغار على مقام النبوة المعصوم فلا يرضى له إلا الفاضل الأولى.

فلن يتذكر إلا من يخشى ممن له تصور صحيح لأسماء وصفات جلال الرب، جل وعلا، فذلك مما يولد الخشية في قلبه، فتلك من جملة حركات القلب النافعة، فيظهر أثرها لزوما على الجوارح بالكف عما يغضب الرب، جل وعلا، فذلك من تمام خشيته، عز وجل، بل هو لازمها الذي لا ينفك عنها، على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين الباطن والظاهر، فالخشية الباطنة لا بد أن تولد خشية ظاهرة، إذ لا انفكاك بين الملزوم ولازمه، فالباطن: ملزوم، والظاهر المصدق له: صحة أو فسادا: لازم، فذلك من جملة الأدلة العقلية الصريحة التي يصدقها الحس الظاهر، فمع انتفاء الإكراه، لا يمكن أن يقع العمل حال التكليف بحضور العقل وبلوغ الحلم وصحة الآلات الفاعلة، لا يمكن أن يقع على خلاف المراد الباطن، فمنشأ أي فعل ظاهر: تصور علمي باطن صح أو فسد، يترجح لصاحبه أن المصلحة في إتيان الفعل، فيولد ذلك التصور في قلبه إرادة الفعل، فيتحرك الباطن رغبة، فيستجيب الظاهر لرغبته بتحقيق مراده في عالم الشهادة، وإنما يقع التباين مع كون المراد واحدا: حصول المنفعة، فلا عاقل يفعل الفعل وهو يستيقن أو يغلب على ظنه أنه ضار به، إنما يقع التباين لتباين مصادر التلقي والإمداد، فمن كان مصدر تلقيه: النبوة، فإنه يصيب بتوفيق الرب، جل وعلا، وفضله عليه المنفعة الحقيقية، وإن شابها من النصب والألم ما لا يخلو منه فعل في هذه الدنيا، ولو كان شهوة تلتذ بها النفوس، فالمنفعة الخالصة الناصحة من الكدر عديمة في هذه الدنيا، إذ لم يطبعها الرب، جل وعلا، على ذلك، فمن أرادها كذلك فقد تكلف ما لا يطاق، بطلب ما يضاد سنة الرب، جل وعلا، الجارية في كونه فيصدق فيه قول القائل:

طبعت على كدر وأنت تريدها ******* صفوا من الأقذار والأكدار

وفي المقابل: من كان مصدر تلقيه: هاتف الشيطان ونازع النفس الأمارة بالسوء، فإنه سيحصل المنفعة المتوهمة بشهوة أو لذة عارضة يعقبها من الآلام النفسية والجسدية في دار الشهادة ما ينسي صاحبها لذتها فضلا عما يلقاه من شؤمها في دار الجزاء، فيجري فيه عدل الرب، جل وعلا، بخذلانه إذ ليس أهلا للتوفيق، فلا يضع الرب الحكيم، جل وعلا، كما تقدم، مادة هدايته في محل غير قابل لآثارها فلا ينتفع بها فيكون في ذلك إهدار وتضييع لها فذلك مما يتنزه عنه آحاد العالمين فكيف بربهم أحكم الحاكمين جل وعلا.

وفي المقابل تكون خشية الظاهر مظنة حصول خشية الباطن، فليست دلالتها عليها قطعية، كدلالة الخشية الباطنة على الخشية الظاهرة، بل قد تكون خشية ظاهرة، ولا أصل لها في الباطن فتكون محض نفاق ورياء.

فلن يتذكر، على جهة التضعيف مئنة من المبالغة والتكلف في الاتصاف بالفعل، كما ذكر ذلك الصرفيون في مبحث معاني حروف الزيادة في "تفعَّل"، لن يتذكر إلا من يخشى، وقد أطلق الفعل مئنة من العموم، فيخشى الله، عز وجل، ويخشى عذابه الذي هو أثر صفات جلاله، ويخشى اليوم الآخر الذي هو ظرفه، وفي المقابل: لا يخشى في الله لومة لائم. فنزل المتعدي منزلة اللازم مئنة من العموم كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير