تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن قوله تعالى: (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى): فذلك من الإطناب في مقابل الإطناب في وصف من يخشى بـ: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى)، فجاء الوصف معرفا بالموصولية إشارة إلى المعنى الذي اشتقت منه جملة الصلة، فهو محط الفائدة، أو هو على ما تقدم من تقدير سؤال محذوف دل عليه السياق اقتضاء، فمن ذلك الشقي بل الأشقى؟!، فقد بلغ الغاية من الشقاء، فحصل الإجمال في معرض الترهيب فذلك مما يسترعي انتباه المخاطب ليحمله على الكف عن مباشرة السبب الجالب لهذا الوعيد، كما يحمل الوعد في الشطر الأول المخاطب على مباشرة السبب الجالب له، فيحصل الترغيب في الفعل إيجابا، ويحصل مقابله من الترهيب منه تركا، فذلك السلب المقابل للإيجاب، فالنفس لا بد لها من حب وبغض فهي لا تحيى إلا بذلك، فلا بد أن تحب ما ينفعها، وتبغض ما يضرها، فناسب ذلك بيان أوجه الانتفاع التي ترغب النفس فيها طلبا للنجاة، وبيان ما يضادها من أوجه الضرر التي ترغب النفس عنها فرارا من الهلاك، فالطباق أو المقابلة حاصلة بين الشطرين اللذين استوفيا قوى الإنسان الحساس المتحرك: قوى الفعل فهي أثر الحب، وقوى الترك فهي أثر البغض، فذلك جار على ما اطرد في التنزيل من القران بين المتقابلات في الذكر لتكتمل الصورة العلمية في الذهن، كما أشار إلى ذلك المحققون من أهل العلم كالشاطبي رحمه الله، فيتبين الرشد فهو مظنة الفعل، من الغي فهو مظنة الترك، ولا بد للنفس من مصدر تلق لما تحبه وما تبغضه، فإن قوى النفس لا تصدر إلا عن تصور علمي سابق، فمن كان مستنده في بيان تلك المسألة المصيرية: النبوات، فقد اهتدى إلى سبيل الهدى والرشاد، فالوحي، لمكان عصمته، لا يترك خيرا إلا دل على سببه وحض على فعله، ولا يترك شرا إلا حذر منه ونفر، ولا يعرض له خيران إلا قدم أعظمهما، ولا يعرض له شران إلا دفع الأعظم بالأصغر، فـ: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)، فدرءت المفسدة العظمى الحاصلة من سب الباري، عز وجل، بالمفسدة الصغرى بالسكوت عن بيان عوار آلهتهم، ولكل مقام مقال، ولا أعدل ولا أحكم من مقال الوحي الطالب لكل خير الدافع لكل شر، ومن كان مستنده قياس البشر فإنه سيعدل لا محالة عن معادن الخير إلى معادن الشر، بما تستحسنه نفسه الأمارة، ويزينه شيطانه، فيزخرف القبيح بما يحصل منه من لذة عابرة، تسكر العقل حال مباشرتها فتنسيه ما يعقبها من آلام الروح والجسد، ويشوه الحسن الذي يبتلى مباشره بألم عارض ليعلم أصادق هو أم كاذب، فإن صبر وثبت، فاز باللذات ونبت، فذلك الجسور الذي صدق الخبر وامتثل الحكم، فكان من أهل: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، وأي حظ أعظم من حظ المؤمن من بركات اتباع النبوات: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، فتلك بركات نكرت تعظيما، فذلك حظه من بركات الدنيا، وهي الأدنى، فكيف بحظه من بركات الآخرة: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، فمعدن النجاة في الدارين كما تقدم مرارا: اتباع النبوات بالتصديق والامتثال، فيوم غابت النبوة فدرست آثارها نظر الله "إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ"، ويوم عزلت عن قيادة الدنيا، أصاب البشر ما أصابهم من الظلم الذي يضاد معنى العدل الحقيقي الذي قررته النبوات، فهي معدن العدل بوضع كل في موضعه، فلكل وصف وحال حكم يلائمها، فذلك العدل لفظا ومعنى، لا لفظا يتشدق به أصحاب المقالات الأرضية الكاسدة ليروجوا بضاعتهم الفكرية الحادثة، فالشيوعية، على سبيل المثال، وهي أشهر مدع معاصر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير