تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تطرأ على النفوس فتلك مما لا يقدر الإنسان على رده فلا يكلف بما لا يقدر عليه، فذلك من المشقة والعسر بمكان، ولا تكليف إلا بمقدور، كما تقدم مرارا من كلام أهل الأصول، فلا حساب على الطارئ ما لم يصر هما جازما، فتلك الإرادة التي يؤاخذ المريد عليها، فهي نتاج تصور علمي قام بالقلب، فقبله المحل، فتولد منه لزوما إرادة تدخل في حيز الكسب الباطن الذي يؤاخذ عليه العبد فليس مجرد خاطرة، بل قد صار جزما بعد أن كان أمرا طارئا، فلما وجد محلا قابلا للإقامة: أقام فعمل في القلب ما عمل من الإرادات: خيرا إن كان خاطرا رحمانيا، أو شرا إن كان خاطرا شيطانيا، فتولد من ذلك الكسب الباطن لزوما ثانيا: كسب ظاهر، فهو تأويل ما قام بالنفس من الخير أو الشر، فإن صحت آلات البدن، وكانت الإرادة على حد الجزم، وانتفت الموانع، فالفاعل: مريد مختار، فلا مكره له، فالفعل واقع لا محالة بالإذن الكوني فلا تخرج إرادة المكلفين عنه، فجاء الفعل اللاحق تأويلا للمقدور السابق، وتأويلا لتصور وعمل القلب الباطن، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الفجور هنا بمعنى التكذيب، والأمام: كناية عن اليوم الآخر، فيكون المعنى: تكذيبه باليوم الآخر على جهة الإصرار فهو مريد مختار، كما تقدم، فتكون دلالة الأمام في التفسير الأول: دلالة عامة لمستقبل الأيام، فهو يريد الفجور لا في خصوص يوم بعينه بل في عموم مستقبل أيامه، وتكون دلالته في التفسير الثاني: دلالة خاصة، ففيها معنى العهد، فهي تشير إلى يوم مستقبل بعينه هو اليوم الآخر.

ولا مانع، عند التدبر والنظر، من حمل الآية على كلا المعنيين، لعدم التعارض، فذلك جار على ما تقدم مرارا، من إثراء السياق الواحد بتوارد المعاني الصحيحة المتكاثرة عليه، وقد يقال من جهة أخرى، بأن المعنيان متلازمان عقلا، فإن التكذيب باليوم الآخر مظنة الفجور، فالأول من الفساد العلمي، والثاني من الفساد العملي، والتلازم بين العلم والعمل صحة أو فسادا، تلازم وثيق، كما تقدم، فإن أي عمل لا بد أن يتقدمه تصور علمي ينبت في القلب الإرادة، فيظهر أثر ذلك على الجوارح لزوما، ولذلك ترى كثيرا من أرباب المقالات الفاسدة: قد ولغوا في الفواحش المغلظة التي يأنف منها آحاد البشر فضلا عمن ينتحل الإمامة في الدين، ولعل فضائح الكنيسة الكاثوليكية خصوصا، والكنيسة النصرانية عموما، خير شاهد على ذلك، فما فسد العمل على هذا النحو الشائن إلا لفساد العلم الأول، فعقد الإيمان في القلب فاسد، فما تولد منه من العمل فاسد بداهة، فللفرع حكم أصله: صحة أو فسادا، فالإيمان شرط صحة في كل عمل صالح، فلا يجدي الصلاح مع فساد الأصل، فكيف بالعمل الفاسد، فالعقد الإيماني الأول هو: الأصل الذي يبنى عليه ما بعده من الأعمال والأخلاق، فبالإيمان يصح التصور، وتصح النية فتكون شرعية بعد أن كان منتهى أمرها أن تكون إنسانية بمقتضى ما ركز في الفطرة من استحسان الحسن واستقباح القبيح فذلك مما اتفق عليه عقلاء البشر، بل إن ذلك، عند التحقيق، ما هو إلا أثر من آثار الميثاق الأول، فالمنشأ: إيماني، وإن لم يفطن صاحبه لذلك، بل وإن كان على غير رسم الإيمان بعد البلوغ وجريان قلم التكليف، فما كان ذلك إلا للفطرة الإيمانية المركوزة في النفوس، فبها يولد المولود فهي قد خالطت قلبه، مخالطة لحمه لدمه وعظمه، وإنما يرد عليها المفسد الطارئ من شتى الأهواء العلمية والعملية، فيضعف وهج الإيمان في القلب، فيتولد من ذلك فساد في الإرادة يكافئه، ويظهر أثر ذلك، كما تقدم، على الجوارح، وبقدر فساد الباطن يكون فساد الظاهر، فمن الناس من يفسد باطنه كليا بنقض الميثاق الأول فيرد المفسد الخارجي على الأصل الإيماني، فلا تجدي فروع فسد أصلها شيئا، فـ: (قَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)، ومن الناس من يفسد باطنه جزئيا بشبهة علمية تخرجه من دائرة الإيمان المطلق إلى دائرة الإسلام العام، فيخالف مقالة النبوة في أصل كلي، كأصحاب الأهواء من أصحاب المقالات والنحل الحادثة، فكل قد فارق مقالة النبوة الأولى في أصل كلي، لا تسوغ المخالفة فيه، فخرج من دائرة الاتباع إلى دائرة الابتداع، فظهر ذلك الفساد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير