تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إلى ربك: فتقديم ما حقه التأخير في معرض نفي الملجأ والمفر آكد في التيئيس، فإلى ربك وحده لا إلى غيره: المستقر، فـ: "لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ"، و: (نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا)، و: (حَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)، فأحاط الرب، جل وعلا، بهم في هذه الدار بعلمه المحيط، وأحاط بالكافرين بعذابه المحيط، وأحاط بهم في الدار الآخرة، فلم يغادر منهم أحدا، فبما أحصته الكتبة، أقيمت الحجة على أهل الظلم والبغي، فنادوا الخزنة: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ).

وأشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، إلى وجه آخر، تكون فيه الآية من كلام الكافر، فذلك منه إقرار بالهلكة فقد أحيط به، فلا يلتفت يمنة أو يسرة إلا وجد النار.

ومن قوله تعالى: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ):

فالمضارع مئنة من الاستقبال ولا يخلو من دلالة استحضارية لذلك الموقف العصيب، إذ ينبأ الكافر على ما اطرد من دلالة "أل" في الإنسان، على معهود بعينه هو جنس الكافر دون بقية الأجناس، فحصل الخصوص من هذا الوجه، وحصل العموم باعتبار شمول جنس الكافر أفراده، فلا يقتصر على كافر بعينه، بل هو عام في كل كافر، فعمومه من قبيل عموم الظالم في قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا): فإن "أل" في الآية بالنظر إلى سبب النزول: عهدية خاصة في فرد بعينه هو الشقي عقبة بن أبي معيط، وبالنظر إلى عموم المعنى: عهدية باعتبار اقتصارها على نوع الكافر فعدم اتباع الرسول على جهة الإجمال والتفصيل لا يكون إلا من الكافر الأصلي أو المرتد، بخلاف الفاسق الملي فإن له حظا من اتباع الرسول، فيقع له الندم، من جهة تقصيره بتفريط في واجب أو تعد بمحرم، ولكنه لا يبلغ حد الندم الذي يكون للكافر، فالتفاوت فيه من جنس التفاوت في عذاب كليهما، فالفاسق تحت المشيئة، فإما أن يعفو الرب، جل وعلا، عنه، وإما أن يعذبه عذابا غير مؤبد، فعذابه أدنى من عذاب الكافر والمنافق، فهو على جهة التأبيد، فلا يكون ندم من عذابه على جهة التأقيت كندم من عذابه على جهة التأبيد، فلكل دركته، فيصح القول بأنها عهدية في نوع الظالم، والكافر تحديدا، لقرينة السياق التي تدل على إرادة الظلم الأكبر، فذلك وجه الخصوص فيها، وهي مع ذلك: عامة في أفراد هذا المعهود، فتعم كل كافر فله حظ من هذا الندم المؤبد، وإن تفاوتت دركات أهل النار، فكل فيها مخلد، فيكون من ورد عليه العموم، وهو ابن أبي معيط، أوفر الظالمين نصيبا من هذا الندم، فهو أشدهم عضا على يديه، كناية عن شدة الندم.

فينبأ الإنسان على ما تقدم من إرادة الكافر تعيينا دون بقية أجناس البشر: ينبأ، يومئذ، فالتنوين قد دل على جملة محذوفة دل عليها قوله تعالى: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، فذلك جار على ما اطرد في لسان العرب من حذف المتأخر لدلالة المتقدم عليه لئلا يقع التكرار المعيب، فذلك من إيجاز الحذف البليغ، فينبأ بما قدم وأخر يوم بروق البصر، فذلك من استيفاء الأحوال باستيفاء شطري القسمة العقلية في معرض بيان إحاطة الرب، جل وعلا، العلمية، بعباده، فقد أحاط بهم أزلا بعلمه الأول، ثم أحاط بهم إحصاء بعلمه الثاني فلسان مقال الظالمين والكافرين والفاسقين وسائر أجناس المقصرين: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)، فالاستفهام جار مجرى التعجب من حال هذا الكتاب الذي أحصى ما نسيه العباد فـ: (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) فوجدوا ما عملوا مما قدموا وأخروا حاضرا فلا يظلم ربك أحدا على جهة الاحتراس فلم يظلمهم، تبارك وتعالى، شيئا، بتحميلهم وزا لم يرتكبوه أو يسنوه، فلكل صاحب سنة نصيبه من سنته: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وإنما وفاهم أجورهم فـ: "يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير