تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".

فينبأ بما قدم وأخر، فإن أنكر، فإن الرب، جل وعلا، يقيم عليه شاهدا من نفسه فينطق الجلود والجوارح بما اكتسبت: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فعلى هذا الوجه يكون الإنباء بالأعمال نفسها، وقد ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وجها آخر، يكون فيه الإنباء بلازم الأعمال من الجزاء عليها، فينبأ بما عمل بما يلاقيه من جزائه، فإنه دال عليه دلالة النتيجة على السبب، فلكل نتيجة سبب يتقدمها، فالتلازم بينهما تلازم عقلي وثيق، يدركه العقل بداهة فهو من جملة العلوم الضرورية، فلو ضرب الطفل الصغير الذي لا يدرك الأمور العقلية التي تكتسب بالنظر، فإنه سيلتفت بداهة ليرى من ضربه، فذلك من مدركاته الضرورية التي لا تحتاج إلى اكتساب كسائر المدركات النظرية التي تنبني على مقدمات عقلية لا يحسنها كل أحد، وكذلك الولد اللاحق فإنه دليل على النكاح السابق، فلا يكون ولد بلا نكاح إلا آية تجري مجرى الإعجاز الكوني، فهي خلاف الأصل فلا يقاس عليها، وكذلك هذا الكون المتقن الخلق، المحكم السنن، فإنه دال بداهة على صانع قدير حكيم مدبر، قد علم أزلا، فلا يكون خلق وإبداع بلا علم، فالكون دال على قدرة الرب، جل وعلا، وعلمه: دلالة النتيجة على السبب، فذلك، أيضا، من جملة المدركات الضرورية المركوزة في الفطرة البشرية التي تقر بوجود ووحدانية الصانع، تبارك وتعالى، بداهة، فهو الذي صنع هذا الكون، على هذا الوجه الباهر، فذلك مئنة من وجوده وقدرته، فلا مصنوع بلا صانع، كما تقدم، ولا صنع على هذا الوجه المتقن إلا بعلم وحكمة، ولا انتظام لأمر مصنوع على هذا الوجه الذي انتظم به أمر هذا الكون مع عظمه ودقة سننه وتعدد أجناسه وتوالي أحداثه .... إلخ، لا انتظام له على هذا الوجه المحكم إلا إذا كان مدبره واحدا لا شريك له في أمره ونهيه، فذلك دليل التمانع الذي قرره أهل النظر في معرض إثبات توحيد الرب، جل وعلا، بأفعاله، فهو الرب الخالق المالك المدبر، ومنه فرع المحققون من أهل العلم: دليل التمانع في الألوهية، فتفرده بالخلق والرزق والتدبير على جهة الخبر: سبب، وتفرده بالتأله والعبودية على جهة الأمر: نتيجة، فذلك جار مجرى ما تقدم من دلالة المسبَّب الناتج على السبب المنتِج، وهو ما أشار إليه صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، في هذه الآية، فيرى العامل جزاء عمله، فيكون في ذلك إنباء له عن عمله، فالجزاء فرع عنه فيدل عليه دلالة فرع على أصله، أو نتيجة على سبب، أو لازم تال على ملزوم سابق، فهو يضاد الكناية من هذا الوجه، إذ فيها ينتقل الذهن من الملزوم إلى اللازم، وأيا كان الأمر فإن الإنباء على جهة التقريع والتوبيخ له بمعاينة العذاب الذي يجزى به على سوء عمله، فيفتضح بسوء مصيره، إذ هو مئنة من سوء عمله، فذلك من قبيل: "يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ"، فلما عاينوا ذلك الجزاء المهين علموا بداهة سببه، فاستفهموا عنه، فأجابهم عالم السوء المخذول بقوله: "كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ"، فما يلقاه من الجزاء العادل إنباء عن سوء طريقته في الدنيا، فقبح النهاية مئنة من قبح البداية ولا يظلم ربك أحدا.

وقد يقال أيضا: بأن السياق وإن رجح إرادة الكافر إلا أن معنى الإنباء عام فيقع لكل عامل: مؤمنا كان أو كافرا، فالمؤمن يستره الرب، جل وعلا، بستره الجميل، فيكون حسن جزائه بالستر والإنعام مئنة من حسن عمله وإن شابه من الذنوب ما لا يسلم منه بشر إلا من عصم الرب، جل وعلا، من الرسل عليهم السلام.

فالمعنى من هذا الوجه عام يشمل الكافر بقرينة السياق فهو من أوله يشير إلى جملة من أحواله، والمؤمن بقرينة عموم الإنباء التي دلت عليها نصوص أخر لم تخصص ذلك بنوع دون آخر، ولا تعارض بين المعنيين فلكل وجه صحيح من الاستدلال.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير