تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويحتمل أن يراد بالبصيرة: الحجة، فيكون في السياق: حذف للموصوف وإقامة للصفة مقامه، وذلك أمر قد اطرد في لسان العرب وفي التنزيل في مواضع عدة من قبيل قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، أي: عملا صالحا فحذف الموصوف وأقام الوصف مقامه، فهو جار مجرى إيجاز الحذف، وهو من أوجه البيان العربي الذي نزل به الوحي الإلهي، فتلك حجة من يطرد القول بنفي المجاز في التنزيل، بخلاف من يثبته فإنه يمثل بمثل هذا الوجه لمجاز الحذف، والخطب يسير في مواضع غير مشكلة، بخلاف ما أشكل من مواضع في الأخبار الغيبية لا يصح فيها إجراء القرائن العقلية بتقدير محذوف أو ترجيح مرجوح لقرينة عقلية في باب خبري .... إلخ من أوجه التأويل فذلك لا يكون إلا فيما يدركه العقل ابتداء ليسوغ له التصرف فيه، بخلاف ما لا يدرك حقائقه كسائر المغيبات، فحظه منها إدراك المعاني الكليات، فلا يجوز له الخوض فيما لم يدرك كنهه، فذلك جار على قياس العقل الصريح، إذ للعقل مدركات محدودة، فالخروج عنها: نقض للقياس بإجرائه فيما لا يجري فيه مما خرج عن مدركات العقل.

فيكون المعنى: بل على كل إنسان حجة بصيرة، فلكل من نفسه على نفسه حجة تفصح عما يخفيه، فهي كاشفة لما ستره عن الناس، فوصفها بالبصيرة مبالغة في معرض بيان قوتها، فهي حجة قوية دامغة، فلا يجدي خداع الغير شيئا، فالإنسان لا يقوى على خداع نفسه، بل يعلم منها يقينا صحة أو فساد طريقتها، بل إن كثيرا من أهل الضلال والزيغ: ينطقهم الرب، جل وعلا، بالحق إرغاما لأنوفهم، فهي حجة تبصر الإنسان بحاله حتى صح وصفها بأنها هي البصيرة وليس صاحبها، فذلك جار مجرى وصف الآيات الموسوية بالبصائر في قوله تعالى: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)، فهي مبصِّرة على وجه حسن معه وصفها بأنها هي البصائر نفسها، فذلك، أيضا، من المجاز عند من يقول به، فأطلق المسبَّب الناتج وهو حصول الإبصار على السبب المبصِّر لصاحبه، فيكون ذلك من المجاز المرسل الذي علاقته: المسببية، ومنكر المجاز في التنزيل خصوصا، أو في لسان العرب عموما: يجري الأمر على ما تقدم من المبالغة في وصف الحجة بالبصر مئنة من وضوحها، فكأنها هي البصر نفسه، والمبالغة أمر قد جرى به اللسان العربي، فصار حقيقة من جهة ذيوع الاستعمال واشتهاره، على ما تقدم، من تنزيل المجاز المشتهر منزلة الحقيقة العرفية التي تقدم بالإجماع على الحقيقة اللغوية المعجمية.

ولو ألقى معاذيره:

فذلك من المبالغة لدلالة: "لو" الوصلية عليها في هذا الموضع ومواضع من قبيل قوله تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فعليه من نفسه حجة يعلمها يقينا ولو ألقى ما ألقى من المعاذير الظاهرة، فتلك قد يعتذر بها أمام البشر، فلا تجدي شيئا أمام رب البشر، جل وعلا، والإلقاء مئنة من الإخبار الصريح فذلك مما يجري حال الاعتذار مدافعة للعقاب فاستعير الإلقاء للقول، فالمعتذر ينطق بعذره كما يلقي المستسلم سلاحه، فيكون الإلقاء بقوة مئنة من كمال الاستسلام دفعا للأذى بقتل أو ضرب، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فكذلك المعتذر يكون نطقه بحجته بقوة، ولو كان كاذبا يعلم كذبه يقينا، دفعا للعقاب، فذلك من جنس الحلف كذبا والإصرار عليه استقطاعا لحق ليس له، فكذلك الكافر يحتج ويصر على حجته طلبا لما ليس له من النجاة، فلا يدحض حجته إلا شاهد من نفسه، كما تقدم من قوله تعالى: (وقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

والمعاذير، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، اسم جمع لا مفرد له من لفظه، فالمعذرة تجمع على معاذر لا معاذير.

وعلى حمل المعاذير على لغة أهل اليمن فهي جمع: معذار، بكسر الميم، وهو الستر، كما أشار إلى ذلك الضحاك، رحمه الله، تكون الاستعارة تمثيلية، إذ الستر بإلقاء الساتر المادي، كستر الكافر بجحد ما اقترفه، فجحده له من باب ستره لئلا يفتضح فذلك من الستر المعنوي، فاستعير الستر المادي للستر المعنوي، وذلك معنى لطيف يدل من وجه آخر على نزول حروف من التنزيل بلغات العرب من غير قريش، فنزوله بلسان قريش، كما تقدم في مواضع سابقة، أمر أغلبي، فلا يخلو من حروف بلسان غير لسان قريش، بل لا يخلو من ألفاظ أعجمية، وإن كانت عربية من جهة اشتهارها في لسان العرب، فضلا عن ورودها في تراكيب عربية، فلا يوجد في التنزيل تراكيب على غير ما جرى في نظم الكلام في لسان العرب، فلا يوجد فيه، على سبيل المثال، تقديم للصفة على موصوفها، فليس ذلك من معهود لسان العرب.

والمعاذير معرفة بالإضافة، وذلك نص في العموم، كما قرر أهل الأصول، والعموم مظنة الإجمال، وقد ورد بيانه في مواضع أخرى من التنزيل من قبيل قوله تعالى: {رب ارجعون لعليَ أعْمَلُ صالحاً فيما تركتُ} [المؤمنون: 99، 100] ومنها قولهم: {ما جاءَنا من بشير} [المائدة: 19] وقولهم: {هؤلاء أضَلونا} [الأعراف: 38]، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك جار على ما تقدم بيانه، مرارا، من تفسير آي التنزيل بالتنزيل.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير