الْمَضَاجِعِ"، فذلك من قبيل ضرب الاستصلاح لا الإهلاك، وكثير قد عجز عنه، بل حسبه أن يقي نفسه من استصلاح زوجه وذريته له!.
وقد جمعت آية آل عمران: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ): أوجه الزينة فحصرتها في خمسة أوجه:
فهي تشمل كل صور المتاع الزائل فحرث للأرض، وأنعام تحرث وتستدر فتلك زينة المطعوم والمشروب، وخيل تركب وعليها قيست كل المراكب الفارهة من العربات والقاطرات والطائرات، فتلك زينة المركوب، وذهب فتلك زينة الاكتناز والادخار فـ: "لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ"، وأولاد فتلك زينة الاستكثار من الذرية، فالأصل الفاني لما يزل طالبا لخلود الذكر ولو بفرع فان هو الآخر!، ففان يستكثر بفان، وليس ذلك إلا عين الفقر والإقلال لو تدبر صاحبه بعين الشرع الحاكم والعقل الباصر، ونساء يقضي بهن وطرا مآله كمآل البدن: فسرعان ما يضعف بضعف البدن، فتجري عليه سنة الهرم، فتهرم الأبدان، وتهرم القوى، وتهرم المشاعر، ولا يبقى للشيخ أو العجوز إلا ما قدم في شبابه حال القوة والفتوة، فمن قدم خيرا وجد أثره في زمن الشيب الذي لا لذات له، إلا لذات الثناء والتعظيم الوهمية، فيروق لكبار السن التعظيم ولو زورا ونفاقا، وليس ثم ثناء نافع إلا ما كان فرعا عن امتثال أمر الشارع، عز وجل، فكل ثناء سواه: كذب وزور، فهو من جملة: متاع الغرور.
فتلك صور خمسة، تزول، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين والتفصيل السابق كله له، تزول: ثلاث منها بالهرم فيزول:
التكاثر بالولد، فقد كبر وعق والديه!، فلم يحتسبا في إنجابه، فعقاه صغيرا بإهمال أمر دينه، فعقهما كبيرا، بإنكار الجميل، وارتكاب كل قبيح، كما هي حال كثير من أبناء هذا الزمان، وهذا أمر لم يسلم منه إلا من سلم الله، عز وجل، فهو سنة كونية جارية، فمن زرع حصد من جنس ما زرعه فلا يجنى العنب من الشوك، فكثير من الأولاد، وإن ظهر عليهم نوع صلاح، قد صاروا من جملة العقوبات الكونية المرسلة على آبائهم لتقصيرهم في القيام بأمر الديانة، وانشغالهم بأمر الدنيا جمعا وادخارا، فيتساءل الآباء في دهشة واستنكار: ما سر تلك الغلظة والجفاء من الأبناء؟!، وما ذلك إلا الجزاء الوفاق، فمن أنجب للدنيا، لم ينتفع بولده، إن كان فاسدا فلن يهبه منها شيئا وإن عظم نصيبه منها فأول من يضن عليه هو: أبواه لفساد خلقه وخبث نفسه، ولم يحصل له تمام الانتفاع به إن كان ولده صالحا فلم ينجبه للقيام بأمر الدين، وإنما أراد به تحصيل أمر الدنيا، وليس لابنه فيها كبير قدر، فإن حصل ابنه فضيلة دينية لم يجد أثرها النافع فيس له في الدين أرب، وإنما أربه التفاخر بالولد أو الاكتساب من ماله.
وتزول الزينة فالمحل قد صار غير قابل، مع أن كثيرا من أصحاب الأمل الطويل يجملون أجسادا قد علاها الوهن وكساها الصدأ، فيدافع السنن الكونية الجارية بهرم الأبدان وضعفها توطئة لفنائها.
وتزول لذة التفاخر، فلم يعد للشيوخ منها إلا وهم التعظيم الزائف، فغايته أن يكون إشفاقا عليه لضعفه وتهدم بنيانه!.
فلم يبق للشيخ إلا اللعب واللهو، فيلعب قتلا للوقت، وذلك مئنة من الإفلاس، فلم يدخر علما نافعا أو عملا صالحا لهذا اليوم، ويلهو بتحصيل شهوات لم يعد لها أهلا، فلا رصيد له من دين يعصمه أو دنيا تشغله، فيفتش في دنياه عما يسد فاقة نفسه إلى السعادة التي ضل أكثر الناس عن جنسها الحقيقي فليس لهم منها إلا ما زينه الشيطان من زخرف القول والعمل غرورا.
فذلك حال أهل العاجلة، فحب على جهة المضارعة يستوعب قوى الباطن والظاهر فيما لا طائل تحته، فالاشتغال بالمفضول عن الفاضل مئنة من عدم السداد، فكيف بالاشتغال بالمرذول.
وفي الطرف الآخر على جهة المقابلة:
وتذرون: فالغمد لا يتسع لسيفين، والمحل لا يقبل الضدين، فمن أحب دنياه أضر بأخراه، ومن أحب أخراه أضر بدنياه، ولكل ترجيجه العملي فرعا عن تصوره العلمي صحة أو فسادا، فمن رجح الآخرة فذلك مئنة من سداده وصحة تصوره العلمي، ومن رجح العاجلة فذلك من خذلانه وفساد تصوره العلمي، فـ: (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا)، و: (لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ).
وجاء الالتفات من الغائب إلى المخاطب زيادة في تقريع المخاطب، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وجاء الجمع بالنظر إلى عموم: "أل" الجنسي في: "الإنسان"، فاللفظ مفرد في مبناه، مجموع في معناه، فدلالته العهدية على جنس الكفار، لقرينة السياق، وإن كانت خاصة من هذا الوجه إلا أنها لا تنقض دلالته الجنسية المستغرقة لأفراد الكفار، بل إن معناها عند النظر والتدبر، يعم غير الكفار، فكثير من أهل الإسلام يحبون العاجلة، فيبذلون الآخرة رخيصة تحصيلا لمتاع العاجلة.
والله أعلى وأعلم.
¥