تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

اللذة، فلا تعدلها لذة جسد أو وهم بتعظيم أو تكريم بقول أو فعل، فاللذة أشرف أجناس الشعور، واللذة العلمية أشرف أجناسها، ورؤية الرب، جل وعلا، أشرف أجناس اللذة العلمية، ولا يكون ذلك إلا في أشرف أجناس الدور: دار المقامة، فاجتمعت صفات الشرف في تلك النعمة الجليلة، فهي، بحق، أعظم باعث للنفوس على تصديق الوحي أخبارا، وامتثاله أحكاما، وقدم المعمول مئنة من شرفه فهو محط الفائدة التي يحصل بها تمام المنة، فالنظر فعل مطلق سواء أكان عقليا أم بصريا، فيحتمل الكمال أو النقص، فلا يفيد معنى إلا بتقييده بمنظور بعينه، فالمنظور العقلي في الوحي الإلهي أشرف أجناس النظر العقلي، والرب، جل وعلا، أشرف ما تعدت الأبصار بالنظر إليه، وهو عند التحقيق لا يكون إلا فرعا عن النظر في رسالاته، فكمال نظر العقل في الشرائع في دار الابتلاء ذريعة إلى كمال نظر البصر إلى الرب، جل وعلا، في دار الجزاء، وتعدي الفعل بـ: "إلى" رافع لاحتمال الرؤية العقلية، الذي حمل عليه منكرو الرؤية: الرؤية في هذا السياق أو غيره من قبيل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ"، فجعلوا فعل الرؤية متعديا إلى مفعولين على ما اطرد في عمل فعل الرؤية العلمية، والصحيح أنه متعد إلى مفعول واحد. ولو حمل على الرؤية العلمية لفسد المعنى، فهل يقول عاقل بأن العلم بالرب، جل وعلا، قد حصل لهم في ذلك الوقت تحديدا فلم يكونوا يعلمون به من قبل!، فالنظر إذا تعدى بـ: "إلى": صار نصا في الرؤية البصرية، كما أنه إذا تعدى بـ: "في": صار نصا في الرؤية القلبية العلمية، فيقال: نظرت إلى كذا، بمعنى رأيته بالباصرة، و: نظرت في أمر فلان، بمعنى تدبرته بالبصيرة، وإن قطع فلم يتعد بالجار، فهو بمعنى الانتظار، وهو ما وقع فيه قبيل آخر من المعطلة، فأولوا النظر في هذه الآية بالانتظار، على تقدير محذوف من قبيل: نعمة ربها ناظرة، وهذا خلاف الأصل، فالتقدير خلاف الأصل، فلا يقدر المحذوف إلا لقرينة، ولا قرينة هنا من اللفظ أو المعنى تشهد لهذا التقدير، فلا وجه لمجاز الحذف في هذا الموضع، فذلك من جنس ما قدروه في نحو قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)، فجعلوا المجيء: مجيء الأمر، فهذا، أيضا، خلاف الأصل، ولا قرينة من اللفظ أو المعنى تشهد له، فعطف مجيء الملائكة عليه على جهة الاصطفاف: "صفا صفا" رافع لاحتمال المجيء المعنوي فهو مجيء ذاتي يليق بجلال الرب، جل وعلا، فلا مطمع للعقل البشري في دار التكليف في إدراك كنهه فذلك مما حجب عنه، كما حجب عنه كمال ذات الرب، جل وعلا، وإن أثبتها ضرورة، فليس عدم الوجدان بالحس الظاهر دليلا على عدم الوجود في نفس الأمر، فذلك من الغيب الذي امتاز الإنسان بالقوة المدركة له المحصلة لأسبابه فيتصوره بعقله ولا يحيله لكمال آلته العقلية ولا يخوض في كنهه وحقيقته فذلك قدح في قياسه إذ الشيء لا يدرك إلا برؤيته أو رؤية نظيره أو خبر صادق عنه، وتلك ممنوعة في حقيقة ذات الرب، جل وعلا، أو حقيقة ما قام بها من أوصاف، ووصف المجيء منها، فيثبت المعنى الذي أثبتته النبوات وتفوض الحقيقة فذلك مما لم يأت به خبر الوحي، ولا يقوى على حده العقل، فوصف المجيء الفعلي ثابت له، تبارك وتعالى، على الوجه اللائق بجلاله، فلا يصار إلى المجاز، على القول بثبوته، إلا إذا استحال حمل الكلام على الحقيقة، فيعدل عنها إلى المجاز لقرينة صحيحة، وفي باب الأخبار لا تكون القرينة إلا لفظية، بخلاف قرائن المؤولة فكلها قرائن عقلية دفعوا بها ما توهموه من تشبيه لوصف الخالق، عز وجل، بوصف المخلوق، والعقل لا عمل له في الغيبيات المحجوبة عنه لقصور مداركه، لا عمل له فيها إلا الإثبات وتدبر المعاني الكلية دون خوض في الحقائق والكيفيات، فليس ذلك له، فهو تابع النقل في الأخبار تصديقا، وتابعه في الأحكام تنفيذا، وإن كان له في الأحكام مجال أرحب، فيدرك من علل الأحكام ما يصح به إجراء القياس الفقهي المعروف في باب الأحكام، بخلاف القياس في الأخبار، فهو محظور، كما قد نص على ذلك المحققون كابن عبد البر، رحمه الله،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير