تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالقياس في الأخبار محظور، والقياس في الأحكام التي تدرك عللها جائز، فليس كل قياس في الأحكام جائزا، فالأمر، أيضا، مقيد بما يدرك العقل علته، فالأحكام التعبدية لا يجري فيها القياس لعدم إدراك العقل علتها أو حكمتها، فغايته أن يجتهد في إدراك لطائف من ذلك تجري مجرى الظن فلا يقين في هذا الشأن، فيدرك من حكمة العبادات كالصلاة والزكاة معان تزكو بها النفوس وتطمئن، ولكنها لا تصلح لقياس عبادة على أخرى من جنسها أومن غير جنسها، للجهل بعلة الحكم تحديدا، فلا تدرك علة نصاب الذهب ليقاس عليه نصاب غيره من الأموال، وإن أدرك العقل حكمة الزكاة من تطهير للنفوس والأموال، ولا تقاس صلاة المغرب على العصر فتصير أربعا، لعدم العلم بعلة جعل العصر أربعا، وإن أدرك العقل حكمة الصلاة من تطهير للنفوس وتزكية للقلوب وصلة بالله، عز وجل، على جهة التعبد والخضوع الذي تكمل به النفوس. فإذا انتفى القياس في باب الأخبار إلا قياس الأولى فلله المثل الأعلى، انتفت كل أوهام التشبيه التي حملت المؤولة على استنباط قرائن عقلية صرفوا بها نصوص الأخبار الغيبية عن ظواهرها، لما توهموه من دلالتها على معان يتنزه عنها الباري، عز وجل، فأصابوا إذ نفوا تلك المعاني، وأخطأوا إذ تصوروا دلالة نصوص الوحي على تلك المعاني الباطلة، فإن لازم ذلك أن الوحي لا تحصل به الهداية فهو مظنة الضلال والعماية حتى ينضم إليه ما أحدثوه من القرائن التي استحسنوها بعقولهم وأذواقهم المضطربة، فذلك من جنس ما يقع فيه من بدل الشرائع من استحسان للأحكام بعقله أو ذوقه، وإن خالفت أحكام الوحي، فيبدلونها أو يؤولونها لتوافق أهواءهم، فجنس ضلال الطائفتين واحد، وإنما ضل الأولون في باب الأخبار، وضل الآخرون في باب الأحكام.

فضلا عن فساد معنى انتظار نعمة الرب، جل وعلا، في دار الجزاء، فالانتظار ينغص على المتنعم نعمته، وذلك أمر منتف في دار الجزاء، دار النعيم الكامل فلا كدر يشوبه ولا ألم أو حرمان ينغصه.

وحصل بالجناس بين: "ناضرة" و: "ناظرة": مزيد حسن في البيان، فهو يدل من وجه على التلازم الوثيق بين النضرة وعلتها، فكأن التلازم قد عم المعنى واللفظ معا.

وفي المقابل وعلى سبيل المقابلة استيفاء لوجهي القسمة العقلية في معرض الجزاء قسمة: السعادة والشقاء.

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ:

فتلك حال وجوه الكفار، والتقسيم، كما تقدم، هو مسوغ الابتداء بالنكرة، فذلك شطر القسمة الثاني، فوجوه الكفار في مقابل وجوه المؤمنين، فهي باسرة كالحة شديدة العبوس، وفي "اللسان": "وَوَجْهٌ بَسْرٌ باسِرٌ وُصِفَ بالمصدر وفي التنزيل العزيز وَوُجُوهٌ يومئذٍ باسِرَةٌ وفيه ثم عَبَسَ وَبَسَرَ قال أَبو إِسحق بَسَرَ أَي نظر بكراهة شديدة وقوله ووجوه يومئذٍ باسِرة أَي مُقَطِّبَةٌ قد أَيقنت أَن العذاب نازل بها وبَسَرَ الرجلُ وَجْهَه بُسُوراً أَي كَلَحَ"، وقد ذيل بعلتها، فقد استيقن الهلاك، فالظن، هنا بمعنى: اليقين، فقد تيقن الفاقرة، وهي الداهية العظيمة، التي نكرت مئنة من الجنس والتعظيم، فجنس الفاقرة التي تحيق به عظيم، والفاقرة هي التي التي تكسر فقار الظهر، ومنه قيل للفقير: فقير، فإن العوز يكسر الظهر، فهي داهية عظيمة تكسر الظهر، وحذف الفاعل للعلم به، فالرب، جل وعلا، هو الذي يعذب عدلا ويغفر فضلا، فذلك من عظم القدرة وعموم المشيئة، وهي مشيئة مقرونة بالحكمة، فليست مشيئة محضة، كما ذهب إلى ذلك من ذهب من المتكلمين، فردوا الأمر إلى محض المشيئة، استدلالا بنحو قوله تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، وذلك إنما يكون لكمال قدرته ومشيئته معا، فلا يسأل عما يفعل، إذ فعله قد بلغ الغاية من الحكمة، ومشيئته عامة لا مخصص لها، فلا يجوز تخلفها، فأثرها كائن في عالم الشهادة لا محالة إذ لا تتخلف الإرادة الكونية، فلا تخرج عنها طاعة أو معصية، بخلاف الإرادة الشرعية فقد تتخلف، بل: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، ولم يقدح ذلك في وصفه، جل وعلا، فله الكمال أزلا وأبدا، فلا يخرج شيء من كونه عن إرادته الكونية النافذة.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير