تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فبعد ذكر الساق مباشرة جاء ذكر السجود: (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ)، وذلك مما يواطئ لفظ الحديث، فيحمل المطلق على المقيد لاتحاد السياق.

ولا مانع من الجمع بين الحقيقة والمجاز في هذا السياق، بل ذلك مما يثري المعنى بتوارد الصورة المحسوسة: صورة التفاف الساقين، والصورة المعقولة: صورة الهول والشدة، وذلك شاهد لمن جوز الجمع بين الحقيقة والمجاز.

إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ: فقدم ما حقه التأخير مئنة من القصر، فإلى ربك لا إلى غيره مساق المحتضر، فذلك جار مجرى قوله تعالى في أول السورة: (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)، فيكون ذلك من رد العجز على الصدر، و: "أل" في "المساق" جار مجرى: "أل" في الآية السابقة فإلى ربك وحده مساقه، وذلك أبلغ في الزجر، فلا ملجأ ولا منجى من الرب، جل وعلا، إلا إليه.

فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى: فذلك مئنة من انتفاء الإيمان الباطن، فلا تصديق، والإسلام الظاهر: فلا صلاة، وفيه إشارة إلى دلالة الاقتران والافتراق بين الإيمان والإسلام، فعند الاقتران يختص الإيمان بالباطن، ومنه التصديق، فهو أصل الإيمان، فليس الإيمان هو عين التصديق، بل التصديق أول الإيمان، فيجب أن يكون التصديق: تصديق الجازم المنقاد لا تصديق العارف الجاحد على وزان من قال فيهم الرب جل وعلا: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)، ويختص الإسلام بالظاهر، وأعظم أركانه: الصلاة، فذلك مما قد يستدل به من يحكم على تارك الصلاة مطلقا، ولو كسلا بلا حجود، بالكفر، كما هو مذهب الحنابلة، رحمهم الله، خلافا للجمهور، فلا انقاد بباطنه فأقر وصدق، ولا انقاد بظاهره فخشع وصلى، واقتران التصديق الباطن بأداء الصلاة الظاهر جار مجرى ما سبقت الإشارة إليه مرارا من التلازم الوثيق بين الباطن والظاهر، فالتصديق الجازم بالخبر باطنا يولد لزوما انقيادا ظاهرا، فيتفق الباطن والظاهر في الدلالة، وتلك حال المؤمن، بخلاف المنافق الذي تخالف صورة ظاهره: فحوى باطنه، فاللفظ منه غير دال على معناه، والعمل منه غير دال على إرادة صالحة، بل محض صورة ظاهرة يبديها لمخالفه تقية، ولا تنفك أقواله وأفعاله، بل ولفتاته عن كاشف لحاله الباطنة، فاضح لنفاقه الأكبر الذي تمكن من قلبه فأزال أصل الإيمان منه لاستحالة اجتماع الأصلين في محل واحد، فلا يجتمع أصل الإيمان وأصل ضده من الكفران الظاهر، كما هو حال الكافر الأصلي أو المرتد، أو الكفران الباطن كما هو حال المنافق الساتر لكفره، بلفظ يبذله، وعمل يتكلفه.

وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى: فذلك مقابل التصديق والصلاة، فنقض عمل الباطن بالتكذيب فلم يصدق، ونقض عمل الظاهر بالتولي فلم يصل.

ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى: فذلك مئنة من الكبر والاختيال وهو الذي لا ينفك عنه الكافر المكذب، فـ: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ)، وجاءت الحال مضارعة استحضارا للصورة ومئنة من دوام اتصاف صاحبها بها، فقيدت فعل الذهاب بقيد يستوجب لصاحبه الذم، فذلك من جنس انقلابهم في أهليهم في سورة المطففين: (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ).

أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى:

فذلك من الوعيد الذي جرى على لسان العرب، جريان المثل السائر مع لحوق ضمائر التكلم والغيبة والخطاب له، على خلاف ما يجري في بقية الأمثال التي يحكى لفظها كما ورد أول مرة.

فأولى لك فأولى: على إرادة قرب الهلاك في معرض التهديد فقد قاربك هلاكك، كما نقل ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله عن الأصمعي رحمه الله، وجعله أبو علي الفارسي، رحمه الله، من باب التفضيل فـ: أويل لك، ثم حصل فيه القلب تخفيفا، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب لغير معين، على ما تقدم من نحو قول أبي الطيب:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكتهُ ******* وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير