تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهل هذا إلا عين الدين الوجداني الذي يظل حبيس القفص الصدري كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين.

ولعل ذلك سر ذيوع مذهب العلمانية المعاصرة في المجتمعات الأوروبية، وقبول أفرادها له على هذا النحو، فله جذور فكرية عميقة في النفسية الأوروبية التي لم تنجح النصرانية بعد تحريفها في تعريفها المعنى الحق لقضية الألوهية: القضية المصيرية الأولى في حياة أي مكلف، فلم تخرج النصرانية بعد ورود التحريف عليها، وخضوعها لسلطان السياسة كما قد جرى في مجمع "نيقية"، لم تخرج عن كونها صورة مهذبة من وثنية روما الأولى، فالدين في جملته: فرض عقلي محض لقضية محالة عقلا لما يلزم منها من وصف الرب، جل وعلا، بالنقص المطلق، وذلك من المحال الذاتي بمكان، بل ضده من اتصاف الرب، جل وعلا، بالكمال المطلق هو الواجب الذاتي الذي تثبته عقول الأسوياء ضرورة لا تفتقر إلى استدلال، بل هي، عند التحقيق، مقدمة بدهية يستدل بها في معرض إثبات الألوهية، فكمال الرب، جل وعلا، يدل بداهة، على وجوب إفراده بالعبودية، فتلك الصورة العقلية المحالة التي أضرت بالعقل الأوروبي النصراني، فأصابته باضطراب فكري، جعله يحصر مفهوم التدين في نفس الزاوية العقلية الضيقة التي حصره فيها العقل الأوروبي الروماني، فليس الدين إلا سلوكا فرديا من جهة التصور أو الشعائر أو الأخلاق، فلا يمس الشأن العام بتشريع ملزم يستند إلى وحي محكم يحل ويحرم، ويثيب ويعاقب في الدنيا والآخرة، فليس كالتشريع الأرضي الذي لا يعنى إلا بتقرير العقوبات العاجلة حفاظا على النظام العام دون أن ينمي في أفراد المجتمع ملكة المراقبة لله، عز وجل، ملكة: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)، وملكة التقوى للعذاب الآجل فهو أعظم قدرا ووصفا من العذاب العاجل، فلم يعد للدين قدسية في النفوس، كما هي حال كثير ممن أعرض عن اتباع الشرع المنزل، فذل وخضع لأحكام وأهواء الشرع المبدل، فمن خضوع لأمر المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم بوصفه المبلغ عن ربه، جل وعلا، فهو، صاحب الرسالة، إلى خضوع لأمر أصحاب الأهواء من الشرق والغرب، أو من أي مصر، فإن ذلك، نوع عبادة، وإن لم تكن عبادة صريحة كالعبادة المعهودة التي صارت في ذهن أهل الأعصار المتأخرة تقتصر على الشعائر التعبدية المحضة من صلاة وزكاة وصيام وحج، فتلك ينكر كل ذي فطرة سوية، فضلا عن عقل وديانة، ولو رقيقة، ينكر صرفها لغير الرب، جل وعلا، فذلك مما ينكره كل عقل له من القياس الصحيح أدنى قدر، وإن صرفها كثير من أهل هذا العصر لغير الله، عز وجل، إما مباشرة، كحال كثير من نساك ورهبان الأمم، ومن حج إلى المعابد والمشاهد، وهل يعقل أن يكون أهل التكنولوجيا من الشرق الأدنى، مع عظم مدنيتهم ودقة صناعاتهم، عبادا لصنم لبوذا تغضب له النفوس وتحمر له الأنوف؟!، وذلك دليل على الفرقان العظيم بين الحضارة بمعناها الإنساني، فتلك لا تكون إلا فرعا عن ديانة صحيحة لم تنلها يد التحريف، وليس ذلك في زماننا إلا للنبوة الخاتمة التي صدقت ما قبلها من النبوات، وورثت خلاصة علومها وأعمالها، بل قد زادت عليها البيان لمجمل الأخبار، والتفصيل لشرائع الأحكام فأحكامها على رسم الوسطية قد نزلت، فجمعت بكمالها جلال وجمال الشرائع السابقة، فنسخت بأحكامها ما تقدمها، وجاءت مصدقة بنفسها لبشرى الرسالات بها، وجاءت مصدقة لأخبار ما تقدمها من الرسالات، فتلك هي الحضارة الإنسانية بمفهومها الصحيح، لا المدنية التي أثرت البشرية باكتشافات صارت وبالا عليها لما تملكتها أيد لم يسلك أصحابها مسلك النبوة، فاستعملت النعم في حرب دين من أنعم بها، تبارك وتعالى، بل قد استعملت في إفناء النوع الإنساني عموما!، وذلك فرقان بين النبوة وسائر المناهج الوضعية التي أحدثها البشر، إما عبادات محضة وإما شرائع ملزمة لأتباعها، فالبدعة بمفهومها الاصطلاحي الواسع تعم سائر ما أحدث في الشرائع والأحكام، فمنها البدع العلمية في الاعتقاد، ومنها البدع العملية في الشرائع التعبدية، ومنها البدع في الشرائع الحكمية، ومنها البدع في السياسات الجائرة التي يحدثها المتملكة صيانة لممالكهم ولو على غير رسم الخلافة للنبوة العاصمة، ومنها البدع في الأخلاق

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير