تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والسلوك بسن طرائق التزكية الغالية كما هي حال غلاة المتنسكة من سائر الأمم، فالغلو من طبائع البشر، وردود الأفعال غالبا ما تتسم بالانفعال والارتجالية فتخرج عن شرائع السماء بزيادة ما لم يأذن به الله، عز وجل، من الشرع، وذلك معنى جامع ترد به سائر المحدثات في الديانة، فيقال لكل محدث: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، فكلمة الدين تعم سائر أمور الديانة من العلوم والأعمال والأحكام والسياسات والأخلاق.

فجاء الاستفهام إنكاريا كما تقدم، فـ: أيحسب، والحسبان هنا ينزل منزلة العلم، وهو مظنة اليقين، فذلك آكد في الإنكار عليه، إذ قد فسد تصوره، فظن أنه قد خلق سدى فلا يؤمر ولا ينهى، وذلك ما يلائم كثيرا من أصحاب الأهواء والشهوات، فلا يروق له إله معبود يأمر وينهى بمقتضى كمال ربوبيته، فحكمه الشرعي ملزم لمن خلق، فيريد المخلوق أن ينازع خالقه وصفه، فيحل ويحرم ما يشاء، وذلك من الفساد بمكان، وكثير يرضى بأن يصرف الشعائر للرب، جل وعلا، ويأبى أن ينقاد لحكمه، بل قد أبى بعضهم حتى التعبد له، جل وعلا، بما سن من الشرائع، فزاد فيها ونقص، ورام إبطالها، فأنكر وجوب بعضها، وشكك في مشروعية بعض، وتلك صورة متقدمة من صور العلمانية المتطرفة التي رامت اقتلاع الإسلام من جذوره، بتبديل شرائعه المعلومة من الدين بالضرورة لكل مسلم، بل قد علمها كثير من الكفار الأصليين بحكم الجوار والمخالطة للمسلمين، فبرسم التجديد تهدم الديانة، وبرسم الحوار تزعزع الثوابت في النفوس، فتزول الحواجز بين المسلم والكافر، وهي حواجز طبيعية لا تقبل الإزالة، فأي متباينين في الفكر والتوجه، ولو في غير أمور الديانة، يقع بينهما من التنافر، ما تحصل به المفاصلة فالمواجهة لزوما، فالتدافع سنة كونية جارية يروم كثير من المفتونين إبطالها، بنزع الحمية الطبعية التي تحفظ للقلب حياته، ولو زالت من نفس صاحب الحق، فلن تزول من نفس صاحب الباطل، فهو يرى ما عليه حقا، فينتصر له بقلبه وجوارحه، فإن لم يمتثل المحق لسنة التدافع، فإن المبطل لن يخالفها، بل هو بها يستمسك، وعليها يحرص، لحفظ هويته الفكرية، كما يقع في زماننا من الغرب الذي انتفض لطرد الإسلام الزاحف من الجنوب، بحرب مظاهره، والطعن في ثوابته، فالحد من حريات التعبد، ولو على المستوى الفردي، صورة من صور التدافع بين القبيلين، مع كون القبيل الشمالي يزعم لنفسه الحرية والمدنية التي تكفل لكل إنسان اختيار دينه، ولو اختار أن يكون ملحدا بلا دين، واختيار ردائه، ولو اختار أن يكون عاريا بلا رداء!، وتلك حرية مكفولة لكل الملاحدة والعراة، وليس لأهل الدين والحشمة منها نصيب، حتى في بعض أمصار المسلمين، التي تحارب صور التدين العام والخاص، وتسن القوانين التي تحد من أثره وتضيق على أهله، فلا بد من وقوع هذا التدافع، فهو مما جبلت عليه النفوس، فلا ينكره إلا من تجمدت دماء الحياة في عروقه، فأصابته دياثة فكرية لا يسلم منها غالبا سلوكه العام، فمن قلت غيرته في أمر الديانة، وهي أعظم ما يغار عليه، قلت ديانته في أمر الأخلاق وفي سائر أمور الحياة، فلا تجد إلا ميوعة الفكر والطبع، فحمية الشرع قد بردت في قلبه، مع كونه يدعي لنفسه صفة الإسلام، بل والتجديد فيه!، وهو محض متسول لأفكار وأموال أعداء الملة الخاتمة، فينتحل نحاتة أذهانهم، ويتسول من أموالهم ميزانيات مشاريعه الفكرية الهدامة التي تعمل تحت ستار أدبي جذاب، فمؤسسات بحث فكري، وصحف، ودوريات، ولجان تطوير للمناهج ...... إلخ، فمراد الآخر المزعوم نزع جذور الديانة من قلوب المسلمين، وإخراجهم من دائرة الإسلام الحقيقي، إلى إسلام هلامي لا تعرف له حدود وأركان فقد أصابته ميوعة، فلم يعد الناظر فيه يعرف الحد الفاصل بين المسلم والكافر، وفي المقابل يعزز الآخر ثقافته في قلوب أتباعه، بل يشن الحرب الفكرية والعسكرية على من يأبى الانقياد لمقرراته، فيروم فرض أفكاره على غيره فرضا، فميوعة برسم التسامح في الجنوب، وتعصب برسم الحفاظ على الهوية في الشمال، وذلك من الكيل بمكيالين، الذي كال به الغرب النصراني سائر مسائله الخلافية مع الشرق المسلم من لدن الحروب

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير