تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبعض أهل العلم حمل نفي الإدراك في قوله تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، على نفي الرؤية العينية فعلا، ولكن في دار الدنيا خلافا لمن غلا في هذا الباب _ لا سيما من أهل الطريق أصحاب الكشوفات _ فجوز رؤية الباري، عز وجل، في هذه الدار بالعين، وجوز رؤية الأنبياء عليهم السلام يقظة على ما قد اشتهر من أمرهم، وهو خلاف ما عليه جمهور المسلمين في هذا الباب.

ولدار الآخرة أحكام تباين دار الدنيا فليس كل ما لم يجز في هذه الدار لا يجوز في دار الجزاء، بل لدار البرزخ وهي دون دار الجزاء أحكام تباين دار الابتلاء التي نحن فيها، فهناك أمور كثيرة لا ندركها ولا نشعر بها في هذه الدار ندركها في دار البرزخ، فليس معنى امتناع رؤية الرب، جل وعلا، في هذه الدار، ليحصل الابتلاء بالإيمان بالغيب، ليس معنى ذلك امتناعه في دار النعيم، فهي ليست دار تكليف بل هي دار جزاء، فيكون جزاؤهم أن آمنوا بالرب، جل وعلا، ولم يروه، يكون جزاؤهم على ذلك أن يروه، فذلك، جار على ما تقدم من معنى العدل الإلهي بتوفية العامل أجره فآمن بما لم يره فاستحق رؤيته على جهة التنعم دون أن يلزم من ذلك إثبات نقص يتنزه عنه الرب جل وعلا لأن الأمر كله يدور في فلك: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فلم يقل المثبت بأن ذات الرب، جل وعلا، ثماثل أو تشبه في حقيقتها القمر مثلا أو أي ذات أخرى تمكن مشاهدتها بالعين، فالتشبيه في نحو قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أما إنكم سترون ربكم عز و جل كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا"، تشبيه رؤية برؤية لا مرئي بمرئي، فالرب، جل وعلا، منزه عن قياس التمثيل أو الشمول، فليست حقيقة ذاته القدسية وصفاته العلية كحقيقة ذواتنا وصفاتنا الأرضية لمجرد الاشتراك في الاسم والمعنى الكلي المطلق للصفات من قبيل سمع وبصر وعلم ويد وعين ووجه ...... إلخ، فذلك لا يلزم منه الاشتراك في الحقيقة، فإذا أمن التشبيه والتكييف في هذا الباب فما المانع من إثبات كل ما أثبته الرب، جل وعلا، لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتحمل الأخبار في هذا الباب على ظاهرها اللائق بجلال الله، عز وجل، بنفي الاشتراك بين صفات الرب، جل وعلا، وصفات المخلوقين في الحقائق الخارجية وإن حصل الاشتراك في المعاني الكلية المطلقة التي لا توجد إلا في الأذهان من قبيل ما تقدم من معاني: العلم والسمع والبصر والعين والوجه واليد ....... إلخ.

والأمر يتطلب جمع أدلة الباب فلا يمكن الاكتفاء بدليل واحد بحمله على وجه فيه نوع تشابه دون رده إلى المحكم الذي لا يتصور إلا بالنظر في كل الأدلة لتكتمل صورة الاستدلال، ففي الآية التي تفضلت بعرضها في المداخلة الثانية، وهي قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ): كلام جمهور المفسرين بما فيهم أصحاب الاتجاه النقلي كالطبري وابن كثير، رحمهما الله، يدل على معنى التعطف، فلا ينظر إليهم بعين العطف والرحمة، وهو معنى علمي، ولكنه لا ينفي النظر الحقيقي، بل هو لازم من لوازمه، فيكون ذلك من قبيل التفسير باللازم، فلا يلزم من ذلك نفي الأصل، وهو النظر بالعين، بل حتى في عالم الشهادة، ولله المثل الأعلى، يكون الإعراض عن النظر إلى الإنسان بالعين دليلا على البغض والكره، فيقول المعرِض: لا أطيق النظر إلى فلان، وهو يعني أنه يبغضه بغضا شديدا، ومع ذلك لا يلزم من ذلك نفي المعنى الأصلي للنظر وهو النظر بالعين، بل غالبا ما يتلازم الأمران، فلا ينظر الإنسان إلى من يكرهه لا بعينه ولا برحمته وشفقته، ولله المثل الأعلى، فما المانع من حمل الآية على هذا المعنى، لا سيما أن من فسر باللازم لم يلتزم نفي الأصل فينفي الرؤية الحقيقية لما يلزم من ذلك من لوازم قياس التمثيل الذي يقتضي تشبيه الخالق، عز وجل، بالمخلوق،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير