تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وما ذهبتم إليه هو ما اعتمده ابن جرير الطبري بالتفريق بين الرؤية والإدراك على قوله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} حيث نفى موسى ما توقعوه من إدراك عدوهم مع أن الترائي حصل بين الجانبين وتابعه ابن حزم. انظر الفصل في الملل والأهواء 3/ 2 ط مكتبة السلام العالمية.

لكن الحافظ ابن حجر العسقلاني نقله عن القرطبي صاحب المفهم وتعقبه الحافظ بقوله: ((وهو استدلال عجيب لأن متعلق الإدراك في آية الأنعام: البصر، فلما نفي كان ظاهُرهُ نفي الرؤية بخلاف الإدراك الذي في قصة موسى ولولا وجود الأخبار بثبوت الرؤية ما ساغ العدول عن هذا الظاهر)) انظر فتح الباري 8/ 607 المطبعة السلفية.

فها هو ابن حجر يستنكر ما ذهب إليه ابن جرير مع أنه يوضح بأن وجود الأخبار في ثبوت الرؤية لا يسوغ العدول عن ظاهر الكلام.

وعليه فإن الإدراك يتفاوت معناه بحسب تفاوت أنواع المدرِكات ـ بالكسر ـ فإدراك العين رؤيتها للشيء، وإدراك الأذن سماعها للصوت، وإدراك اليد حسيسها للجسم، وإدراك السيف وقعه على المضروب، وإدراك السهم إصابته للمرمى، وإدراك الرمح إصابته للمطعون، وإدراك العدو لعدوه تمكنه منه وقدرته على إنزال السوء به. وأصحاب موسى عليه السلام ما كانوا يتوقون مجرد رؤية عدوهم لهم وإنما كانوا يحذرون من تمكنه منهم.

قلتم: (فالعين، كما أثر عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قد ترى الشيء وهي مع ذلك لا تدركه بمعنى أنها لا تحيط به، كالسماء التي نراها ولا ندركها ببصرنا المحدود ولله المثل الأعلى)

هل السماء لا تدركها الأبصار كما الله لا تدركه الأبصار؟ وما الفرق؟

وهل أحد في الوجود يقدر على أن يدركني ببصره بمعنى أن يحيطني؟!! إذن أنا لا تدركني الأبصار فهي لا تحيط عند رؤيتها لي إلا ما انعكس من الضوء من على جسدي وملابسي ولا تحيط بي عن يميني وشمالي وقدامي وورائي أليس كذلك؟!!!

قلتم: (فليس في رؤية الرب، جل وعلا، نقص يتنزه عنه، لأنها رؤية تنعم لا إحاطة، فأي نعمة أعظم من نعمة رؤية الرب، جل وعلا، في دار النعيم، بل إن رؤيته هي أشرف أجناس اللذات فبها يقع تمام العلم به جل وعلا وهو المعنى الذي ذكرته)

ألم يقل الله سبحانه: {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة72

أليس رضوانه أكبر كما علمنا سبحانه وفوز عظيم، فمن أين جئتم بالقول إنه أعظم نعمة؟!!

وهل أشد عذاب هو عدم رؤيته- تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا -؟!!

وثنيتم بالقول: (فأعلى درجات العلم رؤية الشيء، أو على الأقل هو أعلى من اليقين العلمي)

هذا يناقض ما قلتموه، فلقد قلتم عن قريب: (إنها رؤية تنعم لا رؤية إحاطة) فها أنتم الآن تقولون إن الرؤية أعلى درجات العلم، فما علاقة رؤية التنعم بالعلم هل تفيد علما، فالله يقول (ولا يحيطون به علما)!!

ومن ثم أليس نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت، مؤديا إلى اليقين وهو ما وصل إليه الرسول الكريم؟!!

ثم هل طواغيت الكفر كأمثال أبي جهل و أبي لهب في ذلك اليوم يوم تبلى السرائر لا يعرفون الله ولا يؤمنون بأنه خالق السماوات والأرض محيي العظام وهي رميم؟؟!! أم أنهم في قمة اليقين بأن الله سبحانه خالق السماوات والأرضين محيي العظام وهي رميم، وأشد ما يفتقرون إليه حينها ليس النظر إلى الله –تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- بل هم في أمس الحاجة إلى رضوان الله عليهم بإخراجهم من لظى نزاعة الشوى!!

تأملوا في كلامكم جيدا: (فليس معنى امتناع رؤية الرب، جل وعلا، في هذه الدار، ليحصل الابتلاء بالإيمان بالغيب، ليس معنى ذلك امتناعه في دار النعيم، فهي ليست دار تكليف بل هي دار جزاء، فيكون جزاؤهم أن آمنوا بالرب، جل وعلا، ولم يروه، يكون جزاؤهم على ذلك أن يروه، فذلك)

أرجوكم أن تسمحوا لي أن أضع أمامكم حجتي في نفي الرؤية، فأقول وبالله التوفيق:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير