تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْفِتَنَ فَقَالَ قَوْمٌ نَحْنُ سَمِعْنَاهُ فَقَالَ لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ:

فذلك استفهام للاستعلام فيه نوع استدراك على ما جال بخواطرهم من الفتنة الصغرى، الفتنة في أمر الدنيا، فليست هي مراده، فهي، مع عظم خطرها، إذ هي مما يشغل القلب والعقل فاضطراب أمر الدنيا مفسد للمزاج مضعف للسائر في طريق الهداية الذي يتطلب السير فيه: همة مجموعة غير مصروفة، فإذا تجاذبت الشواغل والصوراف أطرافها انحل عقد القلب، وانفسخ رباط الهمة، فالاستكثار من فضول الدنيا: مفسد لأمر الدين، وكذلك الاستقلال من ضروراتها بترك مباشرة أسبابها: مفسد، أيضا، لأمر الدين، فالغنى المطغي والفقر المشغل كلاهما مادة فساد لحال العبد بصرف قلبه عما يصلحه من العلوم والأعمال، فالبطنة تذهب الفطنة والجوع بئس الضجيع، فلا إفراط ولا تفريط. وبذلك رد المحققون من أهل العلم كالشاطبي، رحمهم الله، مقالات أهل الطريق في التقلل من الدنيا بالانخلاع من أسبابها بالكلية فإن ذلك لم يكن معهودا زمن الرسالة فلما قال أبو لبابة رضي الله عنه: "إنّ من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يكفيك من ذلك الثلث! "، وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له نحوًا من ذلك، كما ذكر ذلك الطبري، رحمه الله، في تفسيره.

وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتجرون ويتكسبون، ولم يأمر أحدهم بالخروج من ماله بالكلية حتى في أوقات الشدة، كيوم الأحزاب وساعة العسرة. بل لم يقبل ذلك ممن أراده، كما في حديث صاحب البيضة، وإن قبله من رجال كأبي بكر، رضي الله عنه، إذ له من سابقة الإيمان وقوة الديانة ما يجبر نقصان أمر دنياه، ولأهله من الصبر على ضيق الحال ما ليس لغيرهم فضلا عن كونه تاجرا حاذقا يقوى على التكسب، فليس في إنفاق ماله على هذا الوجه ضرر عليه في نفسه لازم أو على غيره متعد، فإن الرجل لو علم من نفسه صبرا ولم يعلم من أهله نظيره، أو كان على يأس من الدنيا لمرض فزهدت نفسه في عرضها وأهله على رجاء منها لصحة ما جاز له أن يتركهم عالة يتكففون، وفي حديث سعد رضي الله عنه: "إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ"، وهذا مظهر آخر جلي من مظاهر وسطية الملة الخاتمة، فلا إفراط بمباشرة الأسباب لحد الشبع المثقل للأبدان المفتر للأذهان، ولا تفريط لحد الجوع المفسد للأمزجة والأبدان.

يقول الشاطبي رحمه الله:

"فالدخول في عمل على نية الإلتزام له إن كان في المعتاد بحيث إذا داوم عليه أورث مللا ينبغي أن يعتقد أن هذا الالتزام مكروه ابتداء إذ هو مؤد إلى أمور جميعها منهي عنه:

أحدها: أن الله ورسوله أهدى في هذا الدين التسهيل والتيسير وهذا الملتزم يشبه من لم يقبل هديته وذلك يضاهي ردها على مهديها وهو غير لائق بالمملوك مع سيده فكيف يليق بالعبد مع ربه؟

والثاني: خوف التقصير أو العجز عن القيام بما هو أولى وآكد في الشرع وقال صلى الله عليه و سلم إخبارا عن داود عليه السلام: "إنه كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى"، تنبيها على أنه لم يضعفه الصيام عن لقاء العدو فيفر ويترك الجهاد في مواطن تكبده بسبب ضعفه.

وقيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنك لتقل الصوم فقال: إنه يشغلني عن قراءة القرآن وقراءة أحب إلي منه.

ولذلك كره مالك إحياء الليل كله وقال: لعله يصبح مغلوبا وفي رسوله الله صلى الله عليه و سلم أسوة ثم قال: لا بأس به ما لم يضر بصلاة الصبح.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير