وقد جاء في: صيام يوم عرفة أنه يكفر سنتين ثم إن الإفطار فيه للحاج أفضل لأنه قوة على الوقوف والدعاء ولابن وهب في ذلك حكاية وقد جاء في الحديث: "إن لأهلك عليك حقا ولزوارك عليك حقا ولنفسك عليك حقا"، فإذا انقطع إلى عباده لا تلزمه الأصل فربما أخل بشيء من هذه الحقوق ...... وهذا الحديث، (أي حديث سلمان، رضي الله عنه، وفيه "إن لنفسك عليك حقا ولربك عليك حقا ولضيفك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط لكل ذي حق حقه")، قد جمع التنبيه على حق الأهل بالوطء والاستمتاع وما يرجع إليه والضيف بالخدمة والتأنيس والمؤاكلة وغيرها والولد يالقيام عليهم بالاكتساب والخدمة والنفس بترك إدخال المشقات عليها وحق الرب سبحانه بجميع ما تقدم وبوظائف أخر فرائض ونوافل آكد مما هو فيه. (فيكون ذلك من باب تقديم المندوب المفضول على الفاضل سواء أكان واجبا يقع التقصير في أدائه بالمدوامة على المفضول الذي يجهد البدن والنفس، أم مندوبا مثله ولكنه يفضله في الأجر، فهو في كلا الوجهين قد فاته ما هو أولى).
والواجب أن يعطى لكل ذي حق حقه وإذا التزم الإنسان أمرا من الأمور المندوبة أو أمرين أو ثلاثة فقد يصده ذلك عن القيام بغيرها أو عن كماله على وجهة فيكون ملوما ....... والأدلة في هذا المعنى جميعها راجع إلى أنه لا حرج في الدين والحرج كما ينطبق على الحرج الحالي ـ كالشروع في عبادة شاقة في نفسها ـ كذلك ينطلق على الحرج المآلي إذ كان الحرج لازما مع الدوام".
بتصرف من "الاعتصام"، (1/ 289_294).
فذلك من جنس المشقة العاجلة التي يظهر أثرها حالا كمن لا يقدر على القيام في الصلاة ابتداء، أو المشقة الآجلة، كمن يقدر ابتداء على القيام ولكنه يجد مشقة تتراكم حتى توقعه في الحرج باعتبار المآل كأن يكون مريضا يتأخر برؤه بالقيام، فقد يغفل عن هذه المفسدة المتراكمة فيقوم لما يجد من نفسه من القدرة على القيام حال الصلاة دون نظر إلى المآل.
قَالُوا أَجَلْ قَالَ تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ:
و: "أل" في: "الصلاة"، و: "الصيام"، و: "الصدقة" جنسية لبيان الماهية، فجنس الصلاة والصيام والصدقة يكفر الصغائر، أو هي عهدية ذهنية تشير إلى معهود بعينه هو جنس الواجب منها بقرينة: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ"، وذلك إنما يكون بقيد التوبة وعدم الإصرار، فلا يقطع بتكفير الأعمال للصغائر وإنما ذلك على إحسان الظن وقوة الرجاء، وإلا صارت الصغائر في حكم المباحات وهذا نقض لعرى الشريعة.
وذكر تلك الأعمال في سياق المكفرات خارج مخرج التمثيل فلا تصح دعوى التخصيص، إذ الحج، وهو غير مذكور، مكفر من المكفرات، بل هو من أعظمها محوا للسيئات، مصداق قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ": فحذف وجه الشبه لدلالة السياق عليه، إذ الحديث قد سيق مساق الترغيب بالوقاية من السيئات تكفيرا، وإزالة عينها وأثرها تطهيرا.
فيقال بأن ذكر تلك الأفراد في سياق غير حاصر لا يخصص عموم التكفير للصغائر بصالح الأعمال، إذ ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه كما تقرر في الأصول.
وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ:
استدراك واستفهام للتشويق في معرض المدارسة تشحذ به الأذهان وتستحضر به القلوب والأسماع.
وفي قوله: الْفِتَنَ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ: تشبيه بليغ بالمصدر المبين للنوع على وزان: أقدم محمد إقدام الليث، وفي ذلك من التوكيد على عظم خطرها في مقابل الفتنة الأولى ما يزيد شوق المخاطب إلى استكناهها، وفي قوله: "تموج": استعارة لاضطراب الأمواج الحسي في الدلالة على اضطراب الفتن المعنوي، فالفعل مضمن معنى الاضطراب. وهذا حال الناس زمن الفتن إذ تتذبذب الآراء: ولاء وبراء، محبة وبغضا، صعودا وهبوطا، فما يستحسن صباحا يستقبح مساء، وما يكون إيمانا في أول النهار يكون كفرانا في آخره، وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا في بيان حال الفتن:
¥