تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومنها العام: كالنوازل الدينية والدنيوية وما أكثرها في الأعصار المتأخرة، فالملة قد انتقص من قدرها، فنحيت عن الحكم العام، وضيق على من التزم حكمها الخاص، ولعل التضييق على ربات الحجاب، مع كونه من الفروض العينية الخاصة خير شاهد على ذلك، بل ضيق على أداء الشعائر التعبدية التي لا تتعرض للشأن العام، فالأنشطة التعبدية التي تحتاجها الأمم: مؤمنها وكافرها، إذ التأله فطرة كامنة في النفوس التي جبلت على الافتقار إلى رب قادر مدبر، فإن لم تتأله للإله الحق تألهت لسواه من معبودات الباطل، فحاجة الأمم إلى التأله، ولو فاسدا!، حاجة ماسة للحفاظ على تماسك المجتمع، ولو ظاهرا، فكيف بمن عنده عقد التأله النافع مرفوعا إلى خبر النبوات الصحيح والصريح، ومع ذلك أهمله بل ضيق عليه، فتولد من ذلك فتنة عامة، فتنة: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، فأكد الفعل وحقه عدم التوكيد لوروده بعد ناف توكيدا على عموم الفتنة إذا كثر الخبث، إذ فساد الأديان العام مئنة من فساد الأبدان، فتضطرب أحوال الجماعة باضطراب أحوال أفرادها، إذ قد حل العقد العاصم من الفتن من قلوب الأفراد بانغماسها في الشهوات وتتبعها للشبهات، فحل العقد العام الذي يحفظ الجماعة، ففسد البناء تبعا لفساد لبناته، فأي فتنة عامة أعظم من ذلك؟!.

ولكل فتنة مصل واق بالدفع، وعلاج شاف بالرفع إذا وقعت، ولا يستقل ببيان ذلك سوى النبوات، فالتكليفات الشرعيات مما يستعان به على دفع جيوش الفتن النازلة بمقتضى الكلمات الكونيات.

فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا: صيغة عموم لا مخصص لها، فمادة القلوب خلقا: واحدة. واستعير الإشراب الحسي للإشراب المعنوي، فيتشرب القلب الفتنة كما تتشرب الخرقة المائع، وذلك مئنة من تمكن الشبهة أو الشهوة من القلب فيصعب استخلاصها، كالبقعة المستعصية على الزوال إلا أن يشاء الرب، جل وعلا، ذلك، فيستخلص أثر الذنب من القلب بمطهر الإيمان والاستغفار، فالاستغفار، كالأشنان أو الصابون ..... إلخ من المنظفات، يغسل دنس القلب ليرد الذكر بالتسبيح على محل طاهر فيزيده نقاء، كما أثر عن بعض المحققين من أهل هذا الشأن، فلا ينفع ورود التحلية قبل التخلية، فتحلية المحل الدنس إهدار لمادة التحلية، فلا بد من التطهير لا سيما في أزمنة الفتن، فـ: "كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ"، فكفوا الأيدي واشتغلوا بتزكية النفوس بالصلاة والزكاة والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا أمثل من زماننا للعمل بهذه الآية، فقد اتسع الخرق على الراتق، فـ: "عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ"، بأمر النفس، ونصح الغير، إن كان لذلك سبيل!، في زمان الغربة التي صار فيه المنكر معروفا، والمعروف منكرا، فلا يسلم المُنْكِر على فاعل المُنْكَر، ولو كان إنكاره شرعيا بنصح لمن لا ولاية له عليه، لا يسلم من أذى، قد يشتد حينا حتى يصل إلى حد يسقط معه التكليف، فالمشقة تجلب التيسير، فيسقط الإنكار إذا غلب على الظن تولد مفسدة أعظم من المنكر الكائن، من أذى غير محتمل في النفس أو المال أو الذرية ..... إلخ، ويسقط إن غلب على الظن عدم استجابة الفاعل للنصح، بل قد يتمادى، لا سيما إن كان صاحب رياسة أو وجاهة، فهو من أكابر المجرمين، فالإنكار على مثله مظنة عدم الاستجابة، بل لحوق الأذى بالمنكِر!، وعليه حمل بعض أهل العلم قوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى)، فيفيد بمفهومه عدم التذكير إن لم تنفع الذكرى، ومن مأثور قول الشافعي رحمه الله:

أأنثر درا بين سارحة النعم ******* وأنظم منثورا لراعية الغنم

لعمري لئن ضيعت في شر بلدة ******* فلست مضيعا بينهم غرر الحكم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير