وليس المراد الكبر والتعالي على المسلمين، لا سيما العصاة، فمنهم من قام بقلبه من أثر المعصية ذل وانكسار للرب، جل وعلا، هو أحب إليه من صولة الطاعة التي تورث النفوس الضعيفة عجبا ورياء، بل المراد التحلي بالحكمة بوضع الشيء في موضعه، فلا يوضع النصح حيث لا ينفع بل قد يضر، ولكل زمان فقهه، فليس فقه زمان القوة كفقه زمان الغربة، ولكل مكلف فقهه، فليس صاحب الولاية العامة الذي يملك الاحتساب على الجماعة، كصاحب الولاية الخاصة الذي لا يملك إلا ما تحت يده، وليس من له ولاية الأمر كمن ليس له إلا ولاية النصح.
نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ:
فحذف الفاعل للعلم به، ففاعل الفعل هو المكلف، وخالقه الذي شاء النكت في قلبه بمشيئته العامة، وإن كانت على خلاف مراده الشرعي، هو الرب الخالق، عز وجل، والنكث أثر يغاير المحل في لونه فهو مئنة من حصول الأثر بورود المؤثر على المحل بنقط محسوس كالنقط بلون يباين لون المحل، أو نقط معقول بشبهة او شهوة تعكر صفو القلب، وفي "اللسان": "وكُلُّ نَقْط في شيء خالف لَوْنَه نَكْتٌ ...... والنُّكْتَة كالنُّقْطَة وفي حديث الجمعة: فإِذا فيها نُكْتة سَوْداء أَي: أَثر قليل كالنُّقْطة شِبْهُ الوَسَخ في المرآة والسيف ونحوهما ..... والنُّكْتة أَيضاً شِبْه وسَخٍ في المِرْآة ونُقْطَةٌ سوداءُ في شيء صافٍ". اهـ بتصرف
ونائب الفاعل موطئ لما بعده فهو محط الفائدة، ولا يخلو التنكير من معنى التعظيم والتهويل فذلك من قبيل التحذير من التعرض إلى الشبهات، أو الوقوع في الشهوات المحرمة، فليحذر العاقل من شؤم المعصية فإن لها سوادا في القلب يظهر لزوما على الوجه، فشؤم المعصية عاجل العقوبة بالافتضاح، ولو بأثر الذنب دون عينه، فإن خفي الجرم فلا تخفى آثاره.
وفي المقابل، وعلى سبيل المقابلة:
وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ: فالقياس مطرد منعكس، فمن أشرب اسود قلبه، ومن أنكر ابيض قلبه، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: فذلك من الإجمال الذي يعقبه البيان فهو توشيح يزيد التشويق إلى بيان المجمل، فتصير القلوب على قلبين إجمالا بيانه:
عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا: فذلك تشبيه مجمل إذ وجه الشبه بين، فبياضه المعنوي الذي يحدثه الإيمان من جنس البياض الحسي للصفا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ: فذلك من العموم المحفوظ فلا تضره أي فتنة، ما دامت السماوات والأرض، فذلك من قبيل قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ)، فذلك مما عهد في اللسان العربي، فتقول على سبيل التأبيد: لا أكلمك ما دامت السماوات والأرض، وإن كانت ديمومتها على سبيل التأقيت، فليس ثم باق إلا الله، عز وجل، ومن شاء إبقاءه من الكائنات فـ: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ)، وليس منها السماوات والأرض، بل تنشق السماء، وترج الأرض.
وتشبيهه بالصفا مئنة من كونه أملس فلا تعلق به فتنة، كما لا تعلق الشوائب بالحجر الأملس، كما ذكر ذلك القاضي عياض، رحمه الله، فذلك وجه شبه ثان، وهو ألطف من الأول، فالصفا: حجر أبيض أملس، فذلك من التشبيه الحسي الذي جاء وجه الشبه فيه:
مبصرا، فاللون من المدركات الحسية بالعين، فذلك من جنس تشبيه المرأة بالنهار المشرق والشعر بالليل المظلم، فبياض النهار وسواد الليل مما يدرك بالعين الباصرة.
وملموسا: فذلك وجه الشبه الثاني، فالملمس من المدركات الحسية بالجلد، فذلك من جنس تشبيه البشر بالحرير في نعومته، فذلك مما يدرك باليد اللامسة، فضلا عن كون الصفا حجرا صلبا يصعب تفتيته، فكذلك القلب المؤمن يصعب على الشبهات أو الشهوات اختراقه، فذلك وجه شبه ثالث، فصلابة الإيمان من جنس صلابة الحجر، فاستوفى التشبيه: اللون، فذلك نورالإيمان في القلب، والملمس، فلا تعلق به شبهة أو شهوة، فهو كالزجاج تعرض عليه الفتن ولا يتشربها كالإسفنج، كما أثر من نصيحة ابن تيمية لتلميذه ابن القيم، رحمه الله، وهو صلب يستعصي على الكسر، فهو من الأعلين في قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ
¥