تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فلا يكسر من تلك حاله، فقد تسترق الأبدان والقلوب حرة، وقد تطلق الأبدان والقلوب حبيسة في جب الشبهات والشهوات، فلا يهنأ صاحبها بعيش، وإن كان، بادي الرأي، حرا طليقا.

وأخطر ما ابتلينا به بلاء عاما لم يسلم منه أحد تقريبا من أهل زماننا، إلا من عصم الرب، جل وعلا، أخطر ذلك ما حل بالنفوس من الهزيمة وإن لم يكن ثم قتال فذلك مئنة من وقوع القلب في الأسر لا سيما مع الفتنة العامة بقوة الغرب المادية ومدنيته المزدهرة، وإن لم تتوج بمقومات الحضارة الحقيقية من دين وخلق، فذلك مما لا يكون إلا من النبوة، ولا حظ للغرب منها، طوال تاريخه، فهو إما وثني مشرك زمن الرومان، وإما نصراني بعد ورود التحريف الذي صير الملة تثليثية شركية تسلط فيها المتأكلون بالرياسات الدينية على أتباعهم، وإما أخيرا: علماني ملحد بلسان الحال وكثير، كما تقدم في مواضع أخر، قد ألحد بلسان المقال وانتهى الأمر!.

وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا: فذلك الشطر الثاني من القسمة العقلية على جهة الطباق بين الأبيض والأسود المرباد، فبياض الأول صاف لا تشوبه كدرة، وسواد الثاني: كدر، فالسواد المعنوي بالكفر والعصيان، أيضا، من جنس السواد الحسي، ثم جاء التشبيه المرسل بالكوز المائل، فالحال: "مجخيا": عمدة في المعنى وإن كانت فضلة في المبنى، فالكلام من جهة صناعة النحو قد اكتملت أركانه دون ذكرها: فيصح من جهة النحو أن يقال: قلب فلان كالكوز، ولكن المعنى المراد لا يقع في النفس إلا بالحال المقيدة، فإن الكوز يحمل المائع، فلو شبه الإيمان والعمل الصالح بالمائع الذي يحمله الكوز كما يحمل أي وعاء ما به من الموائع، فإن ذلك وصف المؤمن الذي يمتلئ وعاؤه الباطن بالإيمان، فليس المراد، كما تقدم، تشبيهه بالكوز حال استقامته، وإنما المراد تشبيهه بالكوز حال ميله، فيتدفق الإيمان من قلبه الذي مال بشبهة أو شهوة عرضت له، تدفق السائل من الكوز إذا أميل على جانبه، فصار ذكر المشبه به هنا وهو الكوز من باب التوطئة لما بعده من وصف الميل الذي دلت عليه الحال: "مجخيا" فذلك وجه كونها عمدة في المعنى، فلا يتم المراد إلا بذكرها، وإن استقام السياق اللفظي بدونها، فذلك من جنس التوطئة بالخبر في نحو قوله تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)، فمحط الفائدة هو قوله: "واحد"، ففيه إثبات صفة الوحدانية لله، عز وجل، وذلك جوهر الملة، فليس المراد الإخبار عنه بأنه إله، فكلٌ يخبر عن إلهه بأنه إلهه، فذلك أمر بدهي، وإنما المراد بيان وحدانيته، فإن اعترض بأن غير المؤمنين يزعمون لآلهتم الوحدانية، فالتذييل بالحصر الثاني: (لا إله إلا هو)، وهو أقوى أساليب الحصر رافع للاحتمال الناشئ، ولو مرجوحا من الحصر الأول بـ: "إنما" فهو أضعف أساليب الحصر، وقد يقال بأن إيراد الأضعف هنا ليس تقصيرا في أداء المعنى، بل ذلك مما يزيده بيانا، فهو أمر من جملة العلوم الضرورية التي لا يماري فيها إلا من فسد عقله أو تبدلت فطرته التوحيدية الأولى، فحسن إيراده مصدرا بالأضعف لعدم الحاجة في تقريره إلى الأقوى، فلما وردت الشبهة، حسن في مقام الرد إيراد الحصر بالأقوى قطعا لكل احتمال.

ثم جاء التذييل بـ: "لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا"، فذلك بمنزلة البيان لما قبله، فليست لها قابلية حفظ الشرع فلا يعرف المعروف ليمتثله ولا يعرف المنكر ليجتنبه، فاستوفى الوصف الشطرين: الإيجابي بالجلب، والسلبي بالدفع، فليس له منهما نصيب، بل قد فسد المحل فصار يقبل المنكر على جهة الإقرار، والمعروف على جهة الإنكار، وقد أكد هذا المعنى في معرض الذم تنفيرا بتكرار أداة النفي: "لا"، ثم جاء الاستثناء: إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير