تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن إخباره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما جرى من فتنة يوم الدار التي قتل فيها الخليفة الشهيد عثمان رضي الله عنه:

يا عثمان، لعل الله أن يقمصك قميصا، فإن أرادوك على خلعه، فلا تخلعه.

فقوله: يا عثمان:

من النداء استرعاء لانتباه المخاطب، فالخبر أو الأمر عقيبه مظنة الاهتمام، فيشحذ النداء همة المنادى فيصير أقرب إلى تصديق الخبر وامتثال الأمر.

لعل الله أن يقمصك قميصا: فذلك من الإشفاق تمهيدا للأمر التالي عقيبه، وبعض أهل العلم يشير إلى هذا المعنى باسم التوقع فلا يكون إلا للأمر المكروه، وأي مكروه أعظم من قتل رئيس الجماعة المسلمة في فتنة هوجاء أثارها فئام من شذاذ الأمصار، وذلك بخلاف الترجي فهو يكون للأمر المحبوب، من قبيل قولك: لعل الله يرحمنا.

واستعير التقمص الحسي لتقمص منصب الخلافة، فذلك معنى جاء الوصف الحسي تقريبا له إلى الأذهان، والجناس الاشتقاقي بين: "خلعه"، و: "فلا تخلعه": آكد في تقرير المعنى.

فإن أرادوك: ففيه تضمين لمعنى الإرغام، واستعير لازم القميص في مقام النزع الحسي، للازم الخلافة في مقام العزل المعنوي.

وجاء طباق السلب بين: "فإن أرادوك على خلعه" فذلك من الإثبات، و: "فلا تخلعه" فذلك من النهي الذي يلزم منه انتفاء وجود المنهي عنه، جاء هذا الطباق في سياق الشرط، ليزيد الأمر توكيدا بتعليق المشروط على شرطه فذلك من اللزوم العقلي الوثيق.

وفي رواية ثانية:

يا عثمان، إن الله مقمصك قميصا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه:

فجاء السياق مؤكدا، بالناسخ: "إن"، واسمية الجملة، فضلا عن تكرار الفاعل بالنظر إلى الضمير المستكن في اسم الفاعل: "مقمصك"، فيحتمل ضميرا، وإن كان احتماله له أضعف من احتمال المضارع الذي ناب عنه، فالفعل أقوى احتمالا للضمير من الاسم، ولو كان مشتقا يعمل عمله، ودلالة الوصف المشتق الزمانية تطابق دلالة المضارع الذي ناب عنه، فذلك مئنة من الاستقبال باعتبار زمن التكلم، فلما يتول عثمان، رضي الله عنه، الخلافة بعد، وتصدير الكلام بالخبر المؤكد مما يشحذ ذهن المخاطب ويسترعي انتباهه لا سيما إن كان صاحب الشأن، فهو موطئ لما بعده، ودلالته التوكيدية توطئة أخرى لمعنى الإلزام في النهي، فليس ذلك إرشادا في معرض التحذير، بل هو إلزام في معرض التكليف.

ووصف الله، عز وجل، بـ: "المقمص"، جار على ما تقرر في الإلهيات من التفريق بين الاسم والوصف، فالاسم يطلق على الرب، جل وعلا، بلا قيد، والوصف لا يطلق إلا بقيد، فلا يسمى الله، عز وجل، بـ: "المقمص"، وإنما يوصف بأنه يقمص من شاء من عباده بمقتضى قدرته وحكمته قميص الخلافة أو الولاية، فذلك من وصف فعله المتعلق بمشيئته، عز وجل، فليس ملازما لذاته ملازمة الاسم كالعزيز أو وصف الذات كالقدرة: للذات، بل هو مما يحدثه متى شاء كيف شاء على الوجه اللائق بجلاله.

وفي رواية ثالثة:

إن كساك الله ثوبا فأراد المنافقون أن تخلعه، فلا تخلعه:

فتلك استعارة أخرى حذف فيها المشبه وهو الخلافة، وصرح فيها بالمشبه به وهو الثوب، على القول بجريانها في الاسم، وعلى القول بجريانها في الفعل: "كسى"، تكون الاستعارة تصريحية في الفعل الذي استعير لمعنى التكليف، فمنصب الخلافة تكليف شرعي يتلبس به صاحبه تلبسه بما يكسو بدنه من الشعار أو الدثار، وفعل الكساء مظنة السبوغ وهو مئنة من تمام التلبس بمنصب الخلافة فلا يجوز للخليفة أن يستقيل ما لم يكن ثم كفؤ يخلفه، فالأصل في منصب الإمامة العظمى: التأبيد، فلا يعزل الإمام العام للمسلمين إلا بعوارض ذكرها من صنف في مسائل الإمامة والسياسة من أهل العلم، وذلك بخلاف أمراء الأمصار، لا سيما أمراء الجور كما هي الحال في زماننا، فنعتهم بإمارة المؤمنين كما يقع في بعض الأمصار ومن بعض الأفراد والجماعات: نوع هزل تغلب عليه المداهنة التي لا مستند لها من شرع أو عقل، فليس لهم من التفويض الشرعي ما يؤهلهم لهذا المنصب الجليل، وليس لهم من قوة السلطان ما يبرر نعتهم بهذا الوصف الجليل، فلا حكومة دينية ولا حتى دنيوية، وإنما ضعف وذلة في الخارج، وبطش وإرهاب في الداخل، فتلك أدوات حكام الجور لحفظ رياساتهم الهشة، فلم يتولوا إلا جبرا، وإنما امتنع الخروج عليهم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير