امتثالا لأمر الشرع الحنيف درءا لمفسدة الخروج على أئمة الجور، لا كرامة لهم فليسوا لذلك بأهل، فمنصب الخلافة والإمارة أجل من أن يخلع على تلك المسوخ الشائهة، فلا يوضع وصف كهذا الوصف الشريف في محل خسيس لا يليق به، فذلك نقض لقياس العقل الصريح الذي به يتعلق الحكم بالمحل مدحا أو قدحا، فمن مدح من لا يستحق المدح فخلع عليه وصف ثناء، لا سيما إن كان شرعيا، وليس له بأهل بل هو مستحق لضده!، من فعل ذلك فقد أبطل دلالة العقل بالحكم على الشيء بنقيض ما يستحق، فالأمر، كما تقدم، شرعي عقلي في نفس الوقت، فلا يستقيم ذلك التجوز في الإطلاق لا شرعا فهو المعيار الأول في هذه المضائق، ولا حتى عقلا!.
وبمطالعة نقص حال الخلف في أمور الديانة والسياسة يظهر فضل السلف عليهم فهم أكمل منهم في كل شأن ديني ودنيوي، وإن حدث للآخرين من الوسائل ما لم يحدث للأولين، فإنهم لما استعملوها في ضد ما شرعت له، فصيروها أداة تخريب عادت بالوبال عليهم، بخلاف الأولين الذين صنعوا حضارة زاهرة بوسائل أقل بكثير من الوسائل المعاصرة فجاءت حكوماتهم السياسية، على سبيل المثال، أكمل الحكومات وأعدلها وأقواها وأبقاها ذكرا، وقل ما شئت من أوصاف الثناء، فهي حكومات دينية قد تأيدت بالوحي المعصوم لا حكومات كهنوتية تسترق البشر باسم الديانة، أو حكومات لا دينية تسترق الناس بشعارات الجاهلية الأولى.
وجاء متعلق فعل الإرادة مصدرا مؤولا: "أن تخلعه" فله دلالة توكيدية بزيادة مبناه على مبنى المصدر الصريح، فزيادة المبنى كما اطرد في كلام البلاغيين مئنة من زيادة المعنى، ودلالة زمانية باعتبار زمن التكلم، فـ: "أن" تمحض مدخولها للاستقبال، فلما يتول عثمان، رضي الله عنه، كما تقدم، الخلافة بعد ليريده المنافقون على نزعها.
وفي رواية رابعة:
ولا تنزعن قميص الله الذي قمصك:
فجاء النهي مؤكدا بنون التوكيد المثقلة، فذلك مئنة من اللزوم، كما تقدم، وأضيفت الخلافة التي استعير لها معنى القميص إلى الله، عز وجل، فذلك من إضافة التشريف، فهي ولاية دينية شريفة، ونعمة ربانية جليلة نزعت من الأمة من عقود ناهزت القرن، فوجد المسلمون من شؤم إبطالها طوال هذا القرن من المحن والبلايا ما لاقوا، فذلك سر إصرار عدوهم على إبطالها، ولو كانت صورية، فلم يرض الحلفاء عن أتاتورك، رائد العلمانية المعاصر وقدوة كل عدو للديانة متشح بثوب الزعامة الوهمية والبطولة الورقية، لم يرضوا عنه إلا بعد إبطال رسم الخلافة، مع أنه أبطل قبله رسم السلطنة فنزع من الخليفة وظيفته الرئيسة في سياسة الدنيا بأحكام الشريعة، وصيره رمزا بلا أثر، على وزان الملكيات الأوروبية المعاصرة التي لا سلطان للملك فيها إلا سلطان الرياسة المعنوية، فضن الغرب على المسلمين بالرمز، ولو أثرا بعد عين، لئلا يكون لهم رمز جامع يستمد سلطانه من الشريعة التي أوجبت على الأمة نصب الخليفة، فالبعد الديني في منصبه، ولو كان صوريا، بعد ظاهر، يذكر المسلمين بوحدتهم الدينية الجامعة، وهو ما سعى الغرب، ونجح إلى حد كبير، في محوه بإثارة النعرات الطائفية والوطنية التي قطعت أوصال الجسد الواحد، وأحدثت من الخصومات ما تنافرت لأجله القلوب، فصارت كالزجاج المكسور، فلا جبران لهذا الكسر إلا بمراجعة أحكام الدين الخاتم، دين: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ).
وللعلماء في جواز إطلاق لفظ: "خليفة الله"، أو الخلافة عن الله، عز وجل، خلاف معروف، والأصل فيه اختلافهم في تفسير الخلافة في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً):
فقال بعض أهل العلم: هم خلفاء يخلف بعضهم بعضا.
وقال بعض آخر: هم خلفاء عن الله، عز وجل، خلافة ابتلاء، لا خلافة عن غائب كما يقع في عالم الشهادة من خلافة سلطان عام لسلطان خاص فذلك مئنة من عجز السلطان عن حكم سلطنته بنفسه، فلا بد له من خلفاء ينوبون عنه، وذلك معنى قد تنزه الرب، جل وعلا، عنه بداهة، فقدره نافذ وعلمه محيط بكل ذرات كونه، فلا يفتقر إلى الشريك المقاسم أو الظهير المعاون.
وإلى طرف من ذلك أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:
"بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَكُونُ خَلِيفَةً لِغَيْرِهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا} وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ حَيٌّ شَهِيدٌ مُهَيْمِنٌ قَيُّومٌ رَقِيبٌ حَفِيظٌ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ وَلَا ظَهِيرٌ وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَالْخَلِيفَةُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْتَخْلَفِ بِمَوْتِ أَوْ غَيْبَةٍ وَيَكُونُ لِحَاجَةِ الْمُسْتَخْلَفِ إلَى الِاسْتِخْلَافِ". اهـ
وأما الجعل في قوله تعالى: (يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى): فهو يحتمل الجعل الكوني، فيكون لازمه الشرعي: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى)، ويحتمل الجعل الشرعي لما تقدم من شرعية منصب الخلافة على سبيل الإيجاب على الجماعة المسلمة فلا قيام لأي جماعة إنسانية، ولو على غير منهاج النبوة، إلا برأس يلتف حوله أفرادها.
والله أعلى وأعلم.
¥