تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن حديث: «يا عبد الله بن حوالة، كيف تصنع في فتنة في أقطار الأرض كأنها صياصي البقر، والتي بعدها كنفجة أرنب؟» فقال: ما خار الله لي ورسوله، فقال لي: «اتبع هذا، فإنه يومئذ ومن اتبعه على الحق». قال: فلحقت الرجل، فأخذت بمنكبيه، فلفته، فقلت: يا رسول الله هذا؟ قال: «نعم». فإذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه

فالنداء بالبعيد استنهاض لهمة المخاطَب ليقبل على المخاطِب بكليته، ثم جاء الاستفهام تشويقا إلى مراد المتكلم، وقد نكرت الفتنة تعظيما، ثم أطنب صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بيان أوصافها، فهي في أقطار الأرض، وفي رواية: "فِتْنَةٍ تَفُورُ فِي أَقْطَارِ الأَرْضِ"، فالفوران مئنة من الهيجان، كما حكى صاحب "اللسان" رحمه الله: "فارتِ القِدْرُ تَفُور فَوْراً وفَوَراناً إِذا غلت وجاشت وفار العِرْقُ فَوَراناً هاج ونَبَعَ"، فاستعار الفوران الحسي للفوران المعنوي، فذلك من قبيل الاستعار التصريحية التبعية للفعل: "فار" لمعنى الفعل: "انتشر"، فالهيجان والفوران مئنة من الانتشار، وفي رواية أخرى: "كيف تصنعون بفتنة تثور في أقطار الأرض"، والثورة، أيضا، مئنة من الانتشار، ففيه استعارة للثورة الحسية للثورة المعنوية التي تطير فيها الفتنة إلى سائر الأقطار، فذلك مئنة من العموم، وهو محمول على العموم العرفي آنذاك، لا العموم المستغرق، فلم تعم فتنة مقتل عثمان، رضي الله عنه، أقطار الأرض المعروفة الآن، ولا حتى في ذلك الزمان، فيكون العموم مخصوصا بالعرف أو بالعقل فالأرض أرض معهودة هي المدينة التي وقعت فيها أحداث الفتنة، أو هي دولة الإسلام في عهد الخليفة الراشد عثمان، رضي الله عنه، فيكون العموم محفوظا بالنظر إلى أرض المسلمين، مع أن ذلك لا يسلم لقائله من كل وجه، فلم تعم الفتنة بلاد المغرب، على سبيل المثال، وقد يقال بأن سائر أمصار المسلمين لم تسلم من آثار هذه الفتنة، فقد خرجت جموع الثوار من مصر والكوفة والبصرة، وجرت أحداث الفتنة في المدينة، وامتد أثرها إلى بلاد الشام، لما اجتهد معاوية، رضي الله عنه، فلم يبايع حتى يقتص لعثمان، رضي الله عنه، فهو ولي الدم، بوصفه آنذاك، شيخ بني أمية، رهط عثمان، فاجتهد علي، رضي الله عنه، وهو الأدنى إلى الحق، والأولى بالسمع والطاعة، لكونه ولي الأمر الشرعي، فرأى تأجيل القصاص حتى تهدأ ثائرة الفتنة، فكان ما كان في يوم صفين بين الطائفتين المؤمنتين، فنال أهل الشام من أثر هذه الفتنة ما نال أهل بقية الأمصار، وقد يقال بأن العموم هنا ادعائي، بوصف أرض المسلمين آنذاك هي الأرض حقا، فعليها تسطع شمس النبوات، وفيها من الكنوز والخيرات ما ادخره الرب، جل وعلا، لأهل تلك البلاد، وهم، مع ذلك الفيض الشرعي والكوني: أكمل الناس عقلا وأصحهم مزاجا، ثم شبهت الفتنة في شدتها وصعوبة الأمر فيها بأنها كصياصي البقر، وهي: قرونها، فذلك من التشبيه المرسل المجمل الذي حذف وجه التشبيه فيه لظهور المعنى من لفظ: "صياصي"، فقرون البقر حادة شديدة، فضررها إذا أصابت الإنسان عظيم فقد تتلف بدنه، فكذلك الفتن شديدة تتلف العقول والقلوب، فتشتبه على كثير من الناس، وهذا هو القول الثاني في وجه الشبه، وهو مأثور عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فهي كالبقر يشبه بعضه بعضا فيشتبه على كثير من الناظرين فلا يميز بينها إلا من له دراية بها، فيميز بقره من بقر غيره، فكذلك الفتن، فهي متشابهات تحير الناظر فيها، ما لم يكن راسخا، بل قد تشتبه على الراسخين، كما اشتبهت فتنة مقتل عثمان، رضي الله عنه، على أكابر الصحابة، كما أثر ذلك عن الزبير، رضي الله عنه، كما في تاريخ الطبري رحمه الله: "إن هذه لهي الفتنة التي كنا نحدث عنها فقال له مولاه أتسميها فتنة وتقاتل فيها قال ويحك إنا نبصر ولا نبصر ما كان أمر قط إلا علمت موضع قدمي فيه غير هذا الأمر فإن لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر"، وفي إسناده: سليمان بن أرقم، وهو ضعيف، كما في "التقريب"، ولكن معناه صحيح فقد اشتبه الأمر على بعض الصحابة، رضي الله عنهم، فاجتهدوا في إصابة الحق ففاز بعضهم بأجر الاجتهاد، وفازت طائفة علي، رضي الله عنها، بوصف الأدنى إلى الحق، فمع الأخرى حق ولكنه لا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير