وكذلك ليست هي لفظاً مشترَكاً بينها جميعها لأن المشترَك هو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر، مثل كلمة العين للجارية والباصرة والنقد. وصيغة الأمر لم توضع لكل واحد من هذه المعاني لغة بل لم توضع ولا لواحد منها، وإنما وُضعت للطلب، وهذه المعاني هي مبينة لنوع الطلب أي مبينة أن أمره تعالى في قوله: (فأْتوا بسورة من مثله) أنه طلب للتعجيز، وأن قوله: (ذُق إنك أنت العزيز الكريم) أنه طلب للإهانة، وهكذا. ولهذا ليست صيغة الأمر لفظاً مشتركاً.
ولا يقال إن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب ومجاز في غيره شرعاً أي حسب الوضع الشرعي. لأن الشارع لم يضع معنى معيناً لصيغة الأمر، لا للفظ افعل ولا لما يقوم مقامها من اسم الفعل كهات، ومن المضارع المقرون باللام مثل: (لِيُنفِق) بل استعملها الشارع على الوضع اللغوي، والمراد منها في جميع النصوص الشرعية هو المعنى اللغوي وليس لها أي معنى شرعي.
أمّا ألفاظ الفرض والواجب والمندوب والمباح فهي اصطلاحات شرعية لنوع أوامر الله وليس لصيغة الأمر، أي أن أمر الله يكون واجباً ويكون مندوباً ويكون مباحاً فأمره المؤكد القيام به، وأمره غير المؤكد القيام به، وأمره المخيَّر فيه، وكلها أوامر لله. وأمر الله هو طلبه القيام بالفعل سواء أكان مؤكَّداً القيام به أم غير مؤكد أم كان مخيَّراً.
وقد فَهِمنا هذا الأمر من النصوص، وقد يكون بصيغة الأمر وقد يكون لصيغة الأمر. أمّا صيغة الأمر هي الصيغة التي وضعتها اللغة العربية للطلب وهي: افعل وما يقوم مقامها مثل اسم الفعل والمضارع المقرون باللام. فهذه الصيغة لم يضع الشارع معنى شرعياً لها بل تركها على معناها اللغوي. والمراد هو فهم هذه الصيغة وما تدل عليه في كلام الله وكلام رسول الله، وحين يراد فهم هذه الصيغة يجب أن تُفهم فهماً لغوياً حسب دلالة اللغة، ويكون المعنى اللغوي هو المراد منها، ومنه يُفهم المراد من أمر الله في هذا النص. وعلى هذا تكون صيغة الأمر أينما وردت في أي نص من النصوص معناها الطلب لأنها موضوعة له لغة، وحتى يُفهم المراد من الطلب لا بد من قرينة من القرائن تبينه أي تبين المراد من هذا الطلب.
وأما الشبهة التي جعلت بعض الناس يقولون إن الأمر للوجوب، فهي أنهم لم يفرّقوا بين الأمر من حيث هو أمر وبين صيغة الأمر، ولم يفرقوا بين طلب التقيد بالشريعة وبين صيغة الأمر، ولذلك وقعوا في الخطأ.
أمّا بالنسبة لعدم التفريق بين أمر الله وبين صيغة الأمر، فقد استدلوا على أن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب بعشرة أوجه:
الأول: أن الله سبحانه وتعالى ذمّ إبليس على مخالفته قوله: (اسجدوا)، فقال: (ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتُك)، فالاستفهام هنا للتوبيخ والذم، فذمّه على ترك المأمور، فيكون الأمر للوجوب.
الثاني: قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون)، فذمّهم على المخالفة أي على ترك الأمر، وهو دليل الوجوب.
الثالث: قوله تعالى: (فليَحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)، فذمّ على مخالفة الأمر، وهذا يؤكد أن الأمر للوجوب.
الرابع: قوله تعالى: (أفعصيتَ أمري) وقوله: (لا يعصون الله ما أمرهم) وقوله: (ولا أعصي لك أمراً)، فوَصَف مخالف الأمر بالعصيان وهم اسم ذم، وذلك لا يكون في غير الواجب. ففي هذه الآيات سمى من ترك الأمر عاصياً والعاصي يستحق النار لقوله تعالى: (ومن يعصِ الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً)، فدل على أن الأمر للوجوب.
الخامس: قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم) والمراد من قوله: (قضى) ألزَمَ، ومن قوله: (أمراً) أي مأموراً، وما لا خِيَرة فيه من المأمورات يكون واجباً. فدل على أن الأمر للوجوب، إذ بين الله أنه لا توجد هناك خيرة فيما أمر الله فيه، والندب تخيير وكذلك المباح، فدل على أن الأمر يدل على الوجوب لأن الله أبطل الاختيار في كل أمر يَرِد من عند نبيه.
السادس: قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، ثم هدد بقوله: (فإن تولّوا فإنما عليه ما حُمِّل وعليكم ما حُمِّلتُم)، والتهديد على المخالفة دليل الوجوب.
¥