تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

السابع: حديث بريرة وقد عُتِقَت تحت عبد كرهته، فقد سألت بريرة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال لها: لو راجعتِه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، زوجها "مغيثاً"، فقالت: أتأمرني يا رسول الله. قال: لا إنما أنا أشفع)، ففرّق صلى الله عليه وسلم كما نرى بين أمره وشفاعته، فثبت أن الشفاعة لا توجِب على أحد فعل ما شفع فيه عليه السلام، وأن أمره بخلاف ذلك وليس فيه إلا الإيجاب فقط. وبريرة قد عقلت أنه لو كان أمراً لكان واجباً والنبي قررها عليه.

الثامن: قوله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشُقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وهو دليل الوجوب، وإلا فلو كان الأمر للندب فالسواك مندوب.

التاسع: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج. فقام رجل فقال: أفي كل عام؟ فسكت عنه حتى أعاده ثلاثاً، فقال: لو قلت نعم لوَجَبَت، ولو وجبت لما قمتم بها، ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قَبْلَكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكم بالشيء فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، فقد بيّن عليه السلام في هذا الحديث بياناً لا إشكال فيه أن كل ما أمر به فهو واجب حتى لو لم يقدر عليه. وهذا معنى قوله تعالى: (ولو شاء الله لأعنَتَكُم)، ولكنه تعالى رفع عنا الحرج ورحمنا فأمر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم كما تسمع، أن ما أمر به عليه السلام فواجب أن يُعمل به حيث انتهت الاستطاعة، وأن ما نهى عنه عليه السلام فواجب اجتنابه.

العاشر: أن الوعيد قد حصل مقروناً بالأوامر كلها، إلا ما جاء نص أو إجماع متيقَّن فنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا وعيد عليه لأنه غير واجب ولا يسقط شيء من كلام الله تعالى إلا ما أسقطه وحيٌ له تعالى آخر فقط، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمّتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)، والمعصية ترك المأمور أن يفعل ما أمَرَ به الآمر، فمن استجاز ترك ما أمره به الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فقد عصا الله ورسوله، ومن عصاه فقد ضل ضلالاً بعيداً، ولا عصيان أعظم من أن يقول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم: افعل –آمراً- كذا فيقول المأمور لا أفعل إلا إن شئت أفعل ومباح لي أن أترك ما أمرتماني به، وما يعرف أحد من العصيان غير هذا، فدل على أن الأمر للوجوب.

فهذه الأدلة كلها صريحة أن الأمر للوجوب فيكون حقيقة فيه مجازاً في غيره.

والجواب على ذلك هو: أن هذه الأدلة متعلقة بطاعة الأمر وعصيانه وليست متعلقة بصيغة الأمر، وأمر الله واجب الطاعة ومعصيته حرام. وطاعة الأمر تكون بعدم التمرد عليه، فإذا أمر الله بأمر حرم التمرد عليه ووجبت طاعته، ولكن طاعته تكون حسب ما أمر، فإذا أمر أمراً جازماً وَجَبَت طاعته حسب ما أمر ووجب القيام بالفعل، ويكون عاصياً إن لم يقم بالفعل، وهذا هو الفرض والواجب، وإذا أمر أمراً غير جازم وجبت طاعته كما أمر على شكل غير جازم. فإنْ قام بالفعل كان له ثواب وإن سلّم بالأمر ولكنه لم يقم بالفعل المأمور به فإنه لا شيء عليه ولا يأثم فلا يكون عاصياً، وهذا هو المندوب.

فعدم القيام به ليس عصياناً لله ولا مخالَفة عن أمره، لأن أمره ليس بجازم فتكون طاعته واجبة بالتسليم بالأمر وعدم التمرد عليه لا بالقيام بالفعل، إذ يكون التسليم به على هذا الوجه أن يكون القيام بالفعل الذي أُمر به غير جازم، إن قام به أثيب، وإن لم يقم به لا شي عليه ولا يأثم، ولا يكون بعدم القيام به مخالفاً لأمره تعالى. فالله تعالى قد قال: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) فأمَرَ بالعدل وأمَرَ بالإحسان، غير أن الأمر بالعدل للوجوب، والأمر بالإحسان للندب، وهما قد وردا بأمر واحد، فطاعتهما واجبة وهي الامتثال لما أمَرَ والتسليم به وعدم التمرد عليه، أمّا القيام بالفعل فإنه في العدل واجب وعدم القيام به معصية، أمّا في الإحسان فمندوب وعدم القيام به لا يعتبر معصية ولا شيء على من لا يقوم به ولا يعتبر في هذه الحالة عدم القيام به مخالَفة للأمر ولا تركاً له.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير