تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكذلك إذا أمر الله أو رسوله أمراً مخيِّراً بين القيام به وعدم القيام به فقد وجبت طاعة هذا الأمر كما أمر أي على وجه التخيير بين القيام بالفعل وعدمه لا على وجه التخيير في طاعة الأمر وعدم طاعته. فإن قام بالفعل له ذلك، وإن لم يقم به فله ذلك، وفي كلتا الحالتين هو مطيع للأمر، فتكون طاعة الأمر هنا بالتسليم به سواء أقام بالفعل أو لم يقم به، فإن قام به لا شيء عليه وإن لم يقم به فكذلك لا شيء عليه ولا يعتبر مخالفاً للأمر لأن الأمر جاء هكذا. وعليه فإن طاعة الأمر ومعصيته لا تدل على القيام بالفعل الذي أمر به أو عدم القيام به، وإنما تدل على التسليم بالأمر وطاعته على الوجه الذي أمر به من حيث لزوم القيام بالفعل أو عدم لزومه أو التخيير فيه، وهذا ليس محل بحث في صيغة الأمر وهو لا يعطي دلالة معينة لصيغة الأمر وإنما بحثه في الطاعة والمعصية. أمّا صيغة الأمر فيرجع بحثها لمدلول اللغة العربية.

وعليه فإن الأدلة العشرة غير واردة من حيث أن نصها بلفظ الأمر لا بصيغة الأمر، وتُرَد لأن موضوعها الطاعة والمعصية وليس صيغة الأمر. وأما ما ورد منها وفيه علاوة على أن نصّه بلفظ الأمر ما يدل على أن الأمر فيه للوجوب فهو ثلاثة أحاديث: أحدها حديث بريرة، والثاني: حديث السواك، والثالث: حديث الحج.

أمّا حديث بريرة فإنه لا حجة فيه، فهي إنما سألت عن الأمر طلباً للثواب لطاعته، والثواب يكون بالواجب والمندوب، فقولها: (أتأمرني) لا يدل على أنها فهمت الأمر للوجوب وكون الرسول فرّق فيها بين الأمر والشفاعة ليُفهِمها أن هذا ليس مما تجب طاعته وليس ليُفهِمها أن هذا ليس مما يجب القيام به. على أن فهم بريرة لقول الرسول: (لو راجعتيه) بأنه طلب يفيد الأمر لا يصلح حجة على أن الأمر للوجوب، لأنه مجرد فهم لإنسان، وقد يكون خطأ وقد يكون صواباً، فلا يكون دليلاً على أن الطلب يفيد الوجوب. وفوق ذلك فإن الرسول قد بيّن لها خطأ هذا الفهم بأنه لم يُرِد الأمر وإنما أراد الشفاعة.

وأما حديث السواك ففيه ما يدل على أنه أراد بالأمر أمر الوجوب، بدليل أنه قرن به المشقة، والمشقة لا تكون إلا بفعل الواجب لكونه محتماً بخلاف المندوب لكونه في محل الخيرة بين الفعل والترك. ومن ذلك كله تسقط تلك الشبهة بظهور الفرق بين الأمر وبين صيغة الأمر.

وأما حديث الحج في أن قوله: (نعم) دليل على أن أوامره للوجوب، فإنه ليس أمراً ليكون للوجوب بل لأنه يكون بياناً لقوله تعالى: (ولله على الناس حِجّ البيت) فإنه مقتضٍ للوجوب، والبيان يتبع المبين.

وأما بالنسبة لعدم التفريق بين أمر الله وبين صيغة الأمر، فقد استدلوا بقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شَجَرَ بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيتَ) أي أمرتَ، ولولا أن الأمر للوجوب لَما كان كذلك.

والجواب على ذلك هو أن معنى قوله: (قضيتَ) هو حكمتَ وليس أمرتَ، أي مما حكمتَ به من الوجوب والندب والإباحة والتحريم والكراهية والبطلان ونحوه، وليس فيه ما يدل على أن كل ما يقضي به يكون واجباً.

هذا وهناك بعض نصوص اشتُبه فيها أنها تدل على أن الأمر للوجوب. فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا سعيد بن المعلى وهو في الصلاة فلم يُجِبه، فقال: ما منعك أن تجيب وقد سمعتَ الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، فوبّخه الرسول وذمّه على عدم إجابة أمره، فدل على أن الأمر للوجوب. ومن ذلك أيضاً ما رواه مسلم عن أبي الزبير المكي أن أبا الطفيل عامر بن واثلة أخبره أن معاذ بن جبل أخبره قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءنا منكم فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي. قال: فجئناها وقد سَبَقَنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك "أي سير النعل" تبضّ بشيء من ماء "أي تسيل قليلاً" قال: فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل مسستُما من مائها شيئاً؟ قالا: نعم. فسبّهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول) الحديث. فهذان الرجلان استحقا السب من النبي صلى الله عليه وسلم لخلافهما نهيه في مس الماء ولم يكن هناك وعيد متقدم، فثبت أن أمره على الوجوب كله

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير