كافر!، فذلك لا يقع إلا نادرا، وإن كثر في أعصار الضعف التي يستعلن فيها كثير من الزنادقة بزندقتهم.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"إنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْحَقِّ لَيْسَ إيمَانُ الْقَلْبِ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِقَلْبِهِ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَكَانَ مُبْغِضًا لَهُ وَلِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَلِمَنْ أَرْسَلَهُ مُعَادِيًا لِذَلِكَ مُسْتَكْبِرًا عَلَيْهِمْ مُمْتَنِعًا عَنْ الِانْقِيَادِ لِذَلِكَ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُؤْمِنًا مُثَابًا فِي الْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ تَنَازُعِهِمْ الْكَثِيرِ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَلِهَذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي كُفْرِ إبْلِيسَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا عَارِفًا بَلْ لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ عِلْمٍ فِي الْقَلْبِ وَعَمَلٍ فِي الْقَلْبِ أَيْضًا". اهـ
فلا يلزم للحكم بالكفر المطلق، بغض النظر عن حكم المعين، لا يلزم للحكم به اعتقاد القلب، فذلك أمر باطن لا يعلمه إلا الله، عز وجل، فلا يكون هناك كفر في الدنيا على هذا القول فأمور القلوب محجوبة عن البشر!، إلا إن شهد المكلف على نفسه بالكفر، كما تقدم، وتلك شهادة لا يشهدها الكافر الأصلي على نفسه فضلا عن المرتد!، فكل يعتقد أو يظهر الاعتقاد الجازم بصواب ما هو عليه فهو المؤمن وغيره الكافر، وهو المصيب وغيره المخطئ!.
وبغض أهل الحق مئنة من بغض الحق نفسه، فذلك من التلازم العقلي الضروري، فمن سعى في إيذائهم لأجل دينهم فهو مبغض لدينهم وإن ادعى غير ذلك، فشاهد حاله مكذب لشاهد مقاله.
يقول ابن الوزير اليماني، رحمه الله، في "إيثار الحق على الخلق":
" .... وعلى هذا لا يكون شيء من الأفعال والأقوال كفرا إلا مع الاعتقاد حتى قتل الأنبياء والاعتقاد من السرائر المحجوبة فلا يتحقق كفر كافر قط إلا بالنص الخاص في شخص شخص". اهـ
والشاهد أن الكفر كالإيمان يتبعض، فمنه ما لا يجامع أصل الإيمان، كنواقض الإيمان من شعب الكفر الأكبر باطنة كانت أو ظاهرة، ومنه ما يجامع الإيمان من شعب الكفر الأصغر.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"الكفر ذو أصل وشعب فكما أن شعب الإيمان: إيمان، فشعب الكفر: كفر والحياء شعبة من الإيمان وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر والصدق شعبة من شعب الإيمان والكذب شعبة من شعب الكفر والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان وتركها من شعب الكفر والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان". اهـ
وقد تسلط النفي، أيضا، على النكرة: "قوما"، فأفاد عموما آخر، فلا يتصور أي وجدان في الخارج لأي قوم جاء وصفهم المبين: "يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ"، بعد ذكرهم المجمل، فالنكرة مظنة الإجمال، والتنكير في هذا الموضع يفيد التشويق ففيه نوع إبهام يستثير العقول لمعرفة حال أولئك القوم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
فلا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر: فنفى وجدانهم بقيد الإيمان، على جهة المضارعة، فذلك آكد في تقرير المعنى بحدوث الانتفاء وتجدده، فهو مستمر باستمرار وجدان ناقض من نواقضه، جاء هو الآخر على جهة المضارعة: "يوادون"، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فوجد نفي حكم الإيمان بوجود وصف موادة من حاد الله ورسوله من الكفار الأصليين، فذلك أول ما يتوجه إليه المعنى، وقد يصح حمله من وجه آخر، على ما دون الكفر من الكبائر والمعاصي فينتفي وجدان المودة لصاحبها بقدرها، فالولاء والبراء أمر يتفاوت قدره بتفاوت سببه، فمنه الكلي من الكفار، ومنه الجزئي من العصاة، بل يتفاوت قدره بتفاوت كفر الكافر فليس الكافر المجاهر كالكافر المبطن، وتفاوت معصية العاصي، فليست الكبيرة كالصغيرة، بل ليست الكبائر كلها على حد سواء، وإن جمعها وصف الكبيرة الكلي، بل تتفاوت عظما وإثما، فمعنى الموادة كسائر المعاني الذهنية يقبل الانقسام، فيقع الاشتراك المعنوي فيه باعتبار أصله، ثم تتفرع عنه صور متباينة، فيكون منها ما هو كفر، ومنها ما هو دون ذلك، فلكل صورة حكم يلائمها، كما أشار إلى ذلك
¥