تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والمحاداة صورة محسوسة استعيرت لإبراز الصورة المعقولة، فالمتحادان يقف كل منهما في حد يضاد الآخر، فتلك المحادة المحسوسة، فكذلك المحادة المعقولة فكل طرف يقف في جبهة فكرية تضاد الآخر، وإذا اختلفت القلوب اختلفت الأبدان ضرورة، مهما ادعى من ادعى من المغرضين والجهلة دعاوى المحبة والسلام والمصير المشترك ...... إلخ، فتلك دعاوي يكذبها الشرع، فـ: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، و: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، والعقل، فلا يجتمع المتناقضان في محل واحد، فكل يظن في نفسه الإيمان وفي غيره الكفر، وإلا كان متناقضا بتجويز أن يكون هو ومخالفه: مؤمنين!، فيتعدد الحق في أمر لا يكون الحق فيه لا واحدا، أو قائلا بوحدة الوجود وما تفرع عنها من وحدة الأديان، فكلها طرق يسلكها البشر ابتغاء مرضاة ربهم، فمنهم من يسلكها بالإيمان والتوحيد، ومنهم من يسلكها بالكفر والتثليث، ومنهم من يسلكها بتجويز حلول المعبود الأعلى في كائن سفلي، ولو بقرة أو شجرة أو ما دون ذلك مما يتعفف لسان العاقل فضلا عن المسلم عن ذكره، فلا بد من اختلاف الأبدان فرعا عن اختلاف القلوب، فالعمل باعث الإرادة والعمل، فإذا اختلف الأصل: اختلفت الفروع والثمار لزوما، وتاريخ الحروب البشرية خير شاهد على ذلك، فأشرسها الحروب الدينية، ولو في الظاهر، فلا أيسر من تجييش القلوب والأبدان باسم الدين، ولو أدى ذلك إلى التعصب والانغلاق، فكل خطأ تبرره الحمية الدينية المزعومة، فالشريعة تحتمل التأويل، ورءوس الضلالة أئمة في هذا الفن، بل لبعضهم حق التحليل والتحريم بما ناله من نيابة السماء لتصريف شئون الأرض، فلا يدخل الملكوت إلا من رضي عنه، ولا يخرج منه إلا من سخط عليه لكلمة حق قالها.

والشاهد أنه ليس في أمور العقائد صحيحة أو باطلة مداهنة، وإنما يكون البر في نحو قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) في المعاملات بقيد العزة التي صرنا نسمع الآن عنها ولا نجد في نفوسنا أثرها فضلا عن عينها، لا سيما بعد الوقائع الأخيرة التي صار فيها سلاطين الجور عونا للكافرين على فتنة الستضعفين والمستضعفات من المؤمنين والمؤمنات في دينهم، فلا يكون البر إلا لمعاهد مسالم، لا مشاتم منابذ، يقدح في الديانة تلميحا أو تصريحا، فيبدي بعض ما في جوفه من قيح التعصب الأعمى، فـ: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)، فلا تكون إحدى الآيتين ناسخة للأخرى، بل كلاهما محكم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالجهة منفكة، فالمودة القلبية لا تكون إلا للمؤمن، والبر في المعاملات يكون للمؤمن والكافر ما لم تنتهك حدود الديانة، وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها بنسخ أو تخصيص فيعمل كل نص في حال تخصه، وقد عقد القرافي، رحمه الله، في "الفروق" بابا لبيان الفرق بين المودة والبر، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.

والنفي، كما تقدم، مئنة من إنشاء الأمر نهيا جازما، فذلك أبلغ في تقرير الحكم، فهو من قبيل قولك: لا أرينك ها هنا، أي لا تحضر هنا، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فلا يتصور وجود مودة ولو ظاهرة بين مؤمن وكافر، ولا ينبغي أن يقع ذلك فهو أمر محال مع قيام وصف الإيمان بالأول ووصف الكفر بالثاني.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير