تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فجاء الاستفهام، كما تقدم، إنكاريا إبطاليا، فلم يسألهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خراجا، والخطاب له باعتبار المواجهة، كما تقدم في مواضع سابقة، وهو لكل داع إلى الحق أو راغب فيه بالنظر إلى عموم خطاب التنزيل، فلم يسأل داع إلى حق، أو راغب فيه: أهله خراجا، فزهد الأول وعفة الثاني تأبيان ذلك، وأهل الحق غافلون عن إخوانهم، فليت لهم معشار يقظة أهل الباطل، فلا يبخلون بأموالهم نصرة لدينهم مع ظهور بطلانه لكل ناظر، فـ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)، فثقة عاجز، بل ليس ثقة فقد ضعف من قبل غفلته وقلة غيرته على ديانته، وفاجر جلد، لا يكل ولا يمل، فيعمل وينصب فهو من وجوه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً)، ويجمع وينفق، لحرب الحق وأهله، في حمية تقابل برود الأول، فلا تنصر به رسالة، ولا تقام به ديانة، ولا أنساب بين الرب، جل وعلا، وعباده إلا أعمالهم، فمن جد وجد، ولو كان من أهل الباطل، ومن قعد حرم، ولو كان من أهل الحق، وأصحاب الهمم العالية، ولو كانت ضالة كافرة، لا ترضى بالسيادة بديلا أو عديلا.

وجاء الفعل: "تسألهم" على جهة المضارعة استحضارا للصورة، فذلك، أيضا، آكد في تقرير التوبيخ، فالمضارعة مئنة من الحدوث والتجدد، فعلام يتبرمون: أسألتهم مرة ثم ألححت عليهم في السؤال مرات فملوا سؤالك وكرهوا لقاءك؟!، فكيف إذا لم تسألهم ابتداء، بل هم الذين سألوك حفظ أموالهم مع سعيهم في قتلك، فلم يجدوا صادقا أمينا غيرك، ثم سألوك من غنائم الفتح، فأعطيتهم الأجور الجزيلة تأليفا للقلوب الجديدة، التي لما يدخل الإيمان في قلبها، وإن صح إسلامها، فـ: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فـ: "لما": مؤذنة بدخول الإيمان، ولو بعد حين، ومن أقوى أسباب دخوله ورسوخه: الإنفاق: تأليفا لقلب من أسلم ولما يحسن إسلامه، وحفظا لماء وجه من أسلم فحسن إسلامه بل وامتحن في ذات الله عز وجل فثبت ونبت وصار أحسن إسلاما من كثير من ورثة الملة، وقد أريق ماء وجوه كثير من إخواننا في هذه الأعصار، لما غفل أهل الحق عن إخوانهم بل بعضهم قد تنصل من واجب نصرتهم قدر الاستطاعة ولو بالتذكير بحالهم والدعاء لهم بظهر الغيب.

ثم جاء التذييل بعلة الإبطال في الاستفهام الذي صدرت به الآية، كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله، فلا تسألهم خراجا، فالاستفهام قد ضمن أيضا معنى النفي، فيكون من الإنشاء الذي أريد به الخبر عن حاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحال من سار على طريقته، فعف حال الفقر، وبذل حال الغنى، فلكل حال تحصل بالقضاء الكوني: غنى أو فقرا، صحة أو مرضا، تمكينا أو استضعافا، لكل حال منها: قضاء شرعي، فشكر حال النعمة وصبر حال النقمة، فعجبا: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلهُ خَيْرٌ وَليْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ"، فهو في زيادة أجر ورفعة درجة ما سار على جادة شريعة السماء الكاملة، وهو في نقصان في دينه ودنياه ما حاد عنها إلى شرائع الأرض الناقصة، فلا تسألهم خراجا، لأن خراج ربك، ونسبته إلى الرب، جل وعلا، تحتمل:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير