تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فعفي عنهم لعدم القصد، فذلك عذر يمنع نفاذ الحكم، فلا يتصور بداهة أن الصحابة، رضي الله عنهم، تعمدوا إيذاء النبي في تلك الواقعة، فذلك وصف الكفار لا آحاد المؤمنين فيكف بخير طباقهم في العلم والعمل.

ومن إيذائه ما يكفر فاعله، وقد ذكر التنزيل صورا له تمثيلا للمعنى العام لا حصرا لأفراده، فـ: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا)، فعم وصف الإيذاء ثم خص صورة نكاح أزواجه أمهات المؤمنين من بعده لعظم ذلك في حقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بخلاف غيره.

فحصل البيان في مواضع أخر من التنزيل، فذلك جار مجرى تأويل آي الكتاب العزيز بآيه، فما أجمل في موضع ورد بيانه في آخر تمثيلا لعام أو تخصيصا له، أو تقييدا لمطلق، أو نسخا لحكم متقدم بآخر متراخ عنه ...... إلخ من صور البيان التي ذكرها أهل الأصول.

والنوعان كما تقدم متلازمان: فلا ينفك تكذيب الرسل عليهم السلام عن قدح في أوصاف الرب السلام، جل وعلا، الذي سلم بداهة من نقص الذات والصفات فلم يرسل الرسل عبثا، وإنما أرسلهم ليعبد وحده، فينتظم أمر العالم بسريان مادة التوحيد في أرجائه، فهي مادة صلاح الدين والدنيا كما تقدم مرارا.

يقول ابن القيم، رحمه الله، في معرض بيان هذا التلازم الوثيق:

""

ومن صور إيذائه خذلان أتباعه بإسلامهم إلى أعدائه ليفتنوهم في الدين الذي بعثه الرب، جل وعلا، به، ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وتلك هي النازلة المفجعة في زماننا، فكيف يدعي محبته واتباعه من يتربص بأوليائه فيكمن لهم ويتآمر مع الكفار الأصليين ضدهم لإيصال أجناس الأذى القولي والبدني لهم، فهل يكفي التصديق المجرد بأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: رسول دون أن يشفع بلازمه من عمل القلب ولاء لأتباعه وبراء من أعدائه وعمل اللسان دفاعا عن دينه وعرضه وانتصارا لأوليائه لا سيما إن كانوا مستضعفين يسألون إخوانهم النجدة في زمن لا أنجاد فيه!، وعمل الجوارح دفاعا عن دينه بالسيف والسنان وانتصارا لمن وقع عليه الضيم من الموحدين سواء أكانوا أفرادا أم جماعات، فأهل زماننا منهم من تسلط على جماعات الموحدين بالحصار، وأفرادهم بالخذلان والإسلام إلى الكفار الأصليين، وهو مع ذلك مؤمن كامل الإيمان بل لعله يصير بعد موته وليا أو قطبا!، فلا يدري الجاهل الظالم لنفسه أنه قد وقع في ناقض صريح من نواقض الدين فمظاهرة الكفار على المؤمنين مئنة من انتفاء عمل القلب وإن لم ينتف التصديق المحض، فلا ينفع صاحبه إن لم يشفع بالانقياد والتسليم.

ومن صور الإيذاء:

ما ورد في قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ):

فاجتمع له العذاب المهين في آية الأحزاب فهو مئنة من الألم النفسي، ولا يكون العذاب المهين إلا في حق الكافرين المخلدين في العذاب كما أشار إلى ذلك ابن تيمية، رحمه الله، في "الصارم المسلول"، والعذاب الأليم فهو مئنة من الألم الجسدي.

ثم جاء التذييل بالوعيد وهو المسند إلى الاسم الذي تقدم على حد الموصولية مئنة من العموم، كما تقدم، فبعد أن حصل التشويق بذكر العلة التي اشتقت منها جملة الصلة وهي إيذاؤه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بعد أن حصل ذلك جاء التذييل بالمسند، فهو محط الفائدة: (لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا): فذكر الجزاء على جهة الماضوية مئنة من تحقق وقوعه فلعنهم الله فذلك الجزاء المعقول، فاللعن مظنة الطرد والإبعاد ولا يخفى ما فيهما من معاني الزجر، وأعد لهم عذابا مهينا فذلك الجزاء المحسوس.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير