تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ: فذلك مما يجري مجرى التذييل بوصف كاشف عن كنه الحنيفية التي تقدم ذكرها، فيكون من باب الحذف لما دل عليه السياق اقتضاء، فقد انقدح في ذهن السامع السؤال عن حقيقة الحنيفية، فما تلك الحنيفية التي جاء الأمر بلزومها؟!، أو هو جار مجرى النصب على الإغراء، كما ذكر ذلك أبو السعود، رحمه الله، فيكون تقدير الكلام: الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله، فهي سبيل النجاة، فالتوحيد أصل في كل قول أو عمل، إرادة أو حركة، فلا يقبل الرب، جل وعلا، من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه موافقا لسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وإضافة الفطرة إلى الله، عز وجل، من إضافة التنويه بها والتعظيم لشأنها، فإما أن تجري مجرى:

إضافة الصفة إلى الموصوف: فعظمتها من عظمته، جل وعلا، فهي من أوصافه الفعلية التي تتعلق بمشيئته الربانية، فوصفه في التنزيل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، فذلك من قبيل التسمية المقيدة، فلا يجري اسم الفاطر مجرى الأسماء الحسنى المطلقة لوروده مقيدا في باب توقيفي في إطلاقه وتقييده، فما أطلق منه بقي على إطلاقه، وما قيد فلا يطلق عليه، جل وعلا، إلا مقيدا.

والفطر مئنة من إيجاد الشيء لا على مثال سابق، فهو يرادف اسم البديع من هذا الوجه، فالبديع هو الذي بدع الشيء فلا نظير سابق له، وهو ما ورد أيضا في التنزيل مقيدا بالإضافة إلى المبدَع، فوصفه، جل وعلا، في التنزيل: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فيجري، أيضا، مجرى الأسماء المقيدة، ففي الفطر والإبداع معنى زائد على الخلق المجرد، فالخلق تقديرا وإيجادا يصح في الأذهان أن يكون على مثال سابق، كما هي الحال في العالم المشهود، فيخلق الرب، جل وعلا، بقدرته وحكمته، نسلا من الكائنات يشبه الآباء، فخلقه على مثال سابق، فالشبه بين الوالد وولده ظاهر، وإن اقتضت السنة الربانية أن يستقل كل كائن بقدر يباين به غيره، فلا بد من سمة تميزه، فحصل الاشتراك من وجه عام وهو أصل الخلقة، وحصل الافتراق من وجه خاص وهو الهيئة المخصوصة لكل مخلوق، والشاهد أن الفطر آكد في الدلالة على القدرة والحكمة والإتقان، فإذا ثبت أنه، جل وعلا، هو فاطر هذا الكون لا على مثال سابق، فهو الخالق لأعيانه، من باب أولى، فمن قدر على الإيجاد لا على مثال سابق قادر بقياس الأولى الصريح على الإيجاد على مثال سابق. فالرب، جل وعلا هو الذي فطر الأجرام والأعيان على السنة الكونية النافذة، وفطر القلوب على الفطرة الشرعية الحاكمة، فـ: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ويمجسانه وينصرانه" فلم يقل: أو يسلمانه فهو مسلم بفطرته، ففطرته: كونية قدرية للأبدان، وشرعية إيمانية للقلوب، وفطرته باطنة بالتوحيد، فهو سنة الفطرة القلبية، وظاهرة بسنن الفطرة الظاهرة كالاختتان، وهو فرقان بين عباد الرحمن وعبيد الصلبان والأوثان، والاستحداد ....... إلخ من سنن الفطرة، فمعنى الفطرة جامع للكون والشرع، والباطن والظاهر، فمنه فطر معقول للقلوب، ومنه فطر محسوس للأبدان، والمراد في هذه الآية: الفطرة الدينية المعقولة لقرينة السياق: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا)، فالتوحيد هو الفطرة الأولى التي فطرت عليها القلوب، وهي أثر الميثاق الباقي فـ: (إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، فقد ركزت في قلب كل مولود حتى يرد عليها ما يكدرها من أوضار التشريك والتثليث ..... إلخ، ولها بعث الرسل عليهم السلام، فأثرها الباقي من الميثاق: أثر مجمل يفتقر إلى بيان النبوة، وكثيرا ما يرد عليها ما يكدرها، فلا يذهب عينه وأثره إلا التطهير بالوحي فهو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، فلا يرد على محل تنجس بشرك أو بدعة إلا طهره وأذهب ما علق به من قذر المقالات الحادثة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير