تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإما أن تجري مجرى إضافة المخلوق إلى خالقه: بالنظر إلى أثر فعل الرب، جل وعلا، في باطن العبد وظاهره، فهو الذي خلق العلم والإيمان في قلبه، فعلم العبد وإيمانه مخلوق، وإن كان في ذلك نوع إجمال يحسن معه الاحتراز فمن جملة العلم والإيمان: شهادة التوحيد، وهي بالنظر إلى ذاتها: غير مخلوقة بداهة، فهي مما ورد في التنزيل وهو من كلام الرب الخالق، جل وعلا، وكلامه من وصفه، ووصف الخالق غير مخلوق بداهة، وبالنظر إلى نطقها: مخلوقة، فهو حركة لسان واندفاع هواء، وهو الذي خلق التناسب والاعتدال في بدنه، ففطر الرب، جل وعلا، للعبد: فطر عام يشمل كل معقولاته القلبية ومحسوساته البدنية، فهو الذي قدر وأوجد حركاته الباطنة والظاهرة، ففطره على أكمل هيئة، وخلقه في أحسن تقويم، وركبه في أجمل صورة، وكل ذلك مئنة من العناية العامة، ففطرة التوحيد قد ركزت في قلب كل مولود وإن كان أبواه كافرين، وفطرة الأبدان على أكمل الهيئات مما يستوي فيه البشر جميعا مؤمنهم وكافرهم، بل ربما زاد الكافر في جمال الخلقة الظاهرة على المؤمن، كما هي الحال في عالم الشهادة، وذلك من كمال عدله، جل وعلا، فقد عجل له بحظه من الرحمات، فكلها رحمات عارضة زائلة، فمآل الجمال الظاهر في الدنيا إلى الزوال بهرم وموت وبلى، فيوفى أجره في الدنيا، ثم هو في الاخرة من أهل: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا).

والفطرة من جهة المبنى اللفظي: اسم هيئة يدل على كمال رسوخ الملكة في الشيء، فالفطرة مركوزة في النفوس، فالتوحيد ضرورة فطرية عظمى، قبل أن يكون ضرورة شرعية ببعث الرسل، عليهم السلام، وضرورة عقلية فالعقل الصريح يدل بداهة على وحدانية الرب، جل وعلا، في وصفه وفعله، فيتوجه إليه الإنسان بالتأله ولو مجملا حتى يرد بيان الرسالات، فـ: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)، فكانوا أمة واحدة على التوحيد، ثم طرأ عليه التبديل، فبعث الله، عز وجل، الرسل، عليهم السلام، مبشرين ومنذرين.

الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا: ففطر المؤمن والكافر عليها، كما تقدم، فالاستغراق الجنسي لـ: "أل" في "الناس" على بابه.

لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ: فلا تبديل لخلقه الكوني، فما ثم قلب قد فطر على الشرك، بل كل القلوب على التوحيد قد فطرت فذلك من العام المحفوظ فلا مخصص له، أو يكون ذلك من الخبر الذي أريد به الإنشاء فيؤول المعنى إلى: لا تبدلوا خلق الله الكوني بانحراف ظاهر، ولا تبدلوا خلقه الشرعي بانحراف باطن.

ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ: فهو مستو لا اعوجاج فيه، وصيغة "القيم": مئنة من المبالغة في وصف الاستقامة كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ: لفساد تصورهم العلمي، فقد أفسدت مادة الشرك العارضة فطرة التوحيد الأولى.

وإقامة الدين برسم الحنيفية لازمه البراءة من الشرك وأهله، فذلك من بيان الشيء أمرا بالنهي عن ضده فـ: (أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، وإن كان الشرك في حقه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، محالا ذاتيا، فذلك، كما تقدم في مواضع سابقة، من خطاب الشرع العام ببيان مقادير الأعمال إما أمرا ونهيا، أو جزاء بثواب أو عقاب، فالخطاب له مواجهة ولأمته حقيقة فمنهم من يقع في الشرك فيصير النهي في حقه على بابه.

فقوله تعالى: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ): من الإنشاء، ومن الخبر: خبر الخليل عليه السلام: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

فلم يك من المشركين فحذف آخر فعل الكينونة الماضي إمعانا في التعجيل بنفي ضد الحنيفية التوحيدية عن إمام الموحدين صلى الله عليه وسلم فمن غيره أحق بذلك، وقوله: "ولم يك من المشركين": أبلغ من النفي من قولك في غير التنزيل: ولم يكن مشركا.

وفي سياق تال من سورة الروم:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير