تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالتنزيل قد توسط في أمر أولئك السادة فلم يغل فيهم غلو النصارى في المسيح عليه السلام، ولم يجف في حقهم جفاء يهود قتلة الأنبياء عليهم السلام، فأثبت لهم ما يليق بهم من صفات الكمال البشري، ونفى عنهم ما لا يليق بهم من صفات الرب، جل وعلا، فذلك إفراط برسم الغلو المذموم، ونفى عنهم، أيضا، ما لا يليق بآحاد المؤمنين من كبائر وفواحش مغلظة افتراها يهود على الأنبياء عليهم السلام كما في العهد القديم فهو طافح بجرائم يستحى من ذكرها فضلا عن نسبتها إلى خير البرية!.

والإرسال في هذه الآية من الإرسال الشرعي، فهو من جنس البعث الشرعي في نحو قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، فالمادتان تقبلان الانقسام، فمنهما الشرعي، كما تقدم، ومنهما الكوني كما في قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ)، و: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) فذلك البعث الرباني ليوم الحشر فهو من الأمر الكوني النافذ، وكلٌ قد صدر من الرب العلي، تبارك وتعالى، والنبوة من أعظم أدلة العناية الربانية الخاصة في حق النبي، والعامة في حق من أرسل إليهم، فحسن لذلك نسبتها إلى ضمير الفاعلين فهو مئنة من عظمة المنعم بها، جل وعلا، ونسبتها إليه مئنة من عظمتها، فالنسبة إلى العظيم: تعظيم، ولا أعظم من نعمة النبوة: مادة صلاح الدين والدنيا، فآثارها تعم كل عصر ومصر، وآثارها تعم الفرد تزكية لباطنه بأجناس العلوم النافعة، وظاهره بأجناس الأعمال الصالحة، وتعم الجماعة فصلاح الأفراد صلاح للجماعة بداهة فهم لبناتها، فإذا صحت اللبنات: صح البناء، فصلاح الأجزاء صلاح للكل، وإذا صلحت الجماعة صلحت الدنيا فلن تجد من آثارهم إلا ما ينفع البشر في السلم أو الحرب، فسلمهم ليس كسلم غيرهم، فسلمهم عمارة للأرض بلا تعلق بزينة فانية، فقيمة الآخرة في أذهانهم ماثلة، وسلم غيرهم: ترف، فـ: (إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، وحربهم ليست كحرب غيرهم، فحربهم حرب: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم"، فبعث صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسيف النبوة العادل ليعبد الله، عز وجل، وحده، فتكون الدولة: دولة النبوة الكاملة والخلافة الراشدة، فلا خلافة مرضية إلا باقتفاء آثار النبوة، وحرب غيرهم: تخريب وإفناء للنوع الإنساني، وإن تمسح أصحابها بشعارات الدين أو العرق أو القبيلة أو الوطن ..... إلخ من الرايات العمية التي أبطلها الدين الخاتم، فـ: "من قتل تحت راية عمية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلته جاهلية"، و: "دعوها فإنها منتنة".

وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا:

فذلك من الجعل الكوني النافذ، فحصلت الفتنة بالقضاء التكويني الذي يتعلق بالمشيئة الربانية العامة، ونفاذ القضاء يلائمه التعظيم بنسبة فعل الجعل إلى ضمير الفاعلين وهو مظنة الخلق والتقدير، إن تعدى إلى مفعول واحد، في نحو قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)، والتصيير إن تعدى إلى مفعولين، كما في هذه الآية، فصير الرب، تبارك وتعالى، بعض البشر فتنة لبعض، فجعل المؤمن المستضعف، كما هي حال زماننا، فتنة للكافر والمنافق، فتلك نازلة عظيمة أصابت أهل الإسلام بل أهل المروءات في مقتل لا سيما إن كان المستضعف امرأة قد اجتمع لها ضعف الجبلة فهو ضعف خاص في نفسها، وضعف أهل الإيمان فهو ضعف عام في الأعصار التي تنحسر فيها النبوة تضييقا وتغييبا ومع ذلك: قد اجتمع لكثير منهن من قوة الإيمان ومتانة الديانة ما فقن به كثيرا من الرجال بل قد أخجلن الفحول بثباتهن، وجعل الكافر فتنة للمؤمن ليجالده، فتلك سنة التدافع الكونية، فـ: (لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)، فإذا كانت الدولة للكافرين حينا، فلأهل الحق من وسائل الدفع المشروعة ما يرفعون به

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير