تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كما تقدم، ذريعة إلى اختلاف الأبدان بالقتال، أو فرقا تتعارك على رياسات زائلة برسم الدين، وهو أقبحها، فيصير الدين وسيلة لنيل مكاسب عاجلة، وتلك سمة علماء السوء لا سيما في زماننا فمناصب شكلية لا تأثير حقيقي لها قد صارت معقد ولاء وبراء يتسابق أولئك في تقديم التنازلات طمعا في نيلها، فلا يزدادون إلا ذلة وصغارا في أعين من ولوهم ليضفوا على ملكهم الجائر صبغة شرعية هي منه براء، أو تتعارك على رياسات برسم السياسة، فصار الساسة أئمة ملهمين!، لا يتصور البشر الحياة بدونهم، وكل أولئك من شؤم نبذ الوحي، فـ: "ولا حكم أمراؤهم بغير ما أنزل إلا سلط عليهم عدوهم فاستنقذوا بعض ما في أيديهم، وما عطلوا كتاب الله وسنة نبيه إلا جعل الله بأسهم بينهم".

فهم: رحماء بينهم: والبينية مئنة من شيوع الرحمة في أوساطهم، فذلك آكد في تقرير هذا المعنى اللطيف كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.

وذلك مما ورد التنويه به في التنزيل في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، فتلك مقابلة أخرى بين أثر الرحمة ذلة للمؤمنين، وأثر الشدة عزة على الكافرين، فاستوفى كلا السياقين: الوصف الباطن والأثر الظاهر.

وقد قرئ على النصب كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فيكون ذلك من قبيل النصب على الاختصاص مدحا، فيقدر عامل من مادة المدح، فيكون تقدير الكلام: أمدح الأشداء على الكفار الرحماء بينهم، وذلك مما يزيد السياق ثراء، فالسياق ابتداء: سياق مدح زيد فيه بتقدير عامل محذوف يزيد المعنى تقريرا كما تقدم.

تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً: فالخطاب لغير معين، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وذلك أليق بخطاب التشريع العام، فالدعوة إلى تأمل حالهم: دعوة عامة في كل عصر ومصر، فيكون ذلك جار مجرى ما تقدم مرارا من خطاب المواجهة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وخطاب التكليف بالرؤية العلمية على جهة التدبر لحال أولئك السادة فهو من أظهر دلائل النبوة، لمن تدبر ونظر، فلا يصنع أولئك الأفاضل في ذلك الزمن القياسي لا يصنعهم إلا وحي، فعنه يصدرون في كل عقد وقول وفعل، فحبهم، كما يقول بعض الأفاضل، من أرجى الأعمال، فهو برهان صدق على حب الرسالة وصاحبها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذلك من أصول الدين، فحبهم يلتحق بحبه التحاق الفرع بالأصل فعنه صدروا: صدور الأبناء البررة عن الأب الرحيم فـ: (لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ).

والرؤية هنا مئنة من التعجب من تلك الحال الكاملة، وإتيانها على جهة المضارعة مئنة من دوام التفكر في حالهم، ودوام تلك الحال الكاملة، فهي وصفهم الثابت، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فتراهم:

رُكَّعاً سُجَّداً: فتلك أشرف مواطن العبودية التي حققها أولئك في حياتهم، فكان الدين بعلومه الباطنة وشعائره الظاهرة وشرائعه وأحكامه الخاصة والعامة كان معقد الولاء والبراء الوحيد في قلوبهم فبه يحيون وله ينتصرون فلا حظ لهم في مكسب أو رياسة، وليس الدين عندهم ذريعة إلى تسلط روحاني من جنس التسلط الذي يمارسه كهان الديانات الكهنوتية، أو مطعم حقير زائل من مطاعم الدنيا التي حملت كثيرا من المنتسبين إلى الديانات على التحريف والكتمان.

يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً: فذلك من الإطناب بتعدد الأحوال: "ركعا"، و: "سجدا" و: "يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا": وذلك أليق بسياق المدح بتعداد خصال الممدوح، ولا يخلو من تقرير للعلة الغائية من تلك العبودية، فيسألون الجنة برسم: "أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ"، وقد يحمل السياق على تعدد الأخبار، كما ذكر ذلك أبو السعود رحمه الله، وتعدد الأخبار أيضا يحمل على الإطناب بتعداد أوصاف الممدوح، فالخبر والحال كلاهما يدل على اتصاف صاحبه بالمعنى الذي اشتق منه، فقولك: زيد فاهم يدل على اتصاف زيد بصفة الفهم التي اشتق منها

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير