تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فـ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)، فتلك العبودية البشرية، و: (يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ): فتلك الصفة الرسالية التي امتاز بها الأنبياء عليهم السلام، فلهم من الملكات البشرية البدنية ما يزيد على عموم البرية، ولكنهم لا يخرجون بذلك عن حد البشرية، فيأكلون ويشربون وينكحون وينامون ويمرضون ويموتون، فـ: (مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)، و: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، فلو كان المكلفون ملائكة لبعث الرسول ملكا لتحصل القدوة بفرد من أفراد النوع، فلا يصح الاقتداء بنوع يباين خلقه الجبلي ووصفه الذاتي والمعنوي: خلق ووصف البشر، فلا يقوى البشر على ما تقوى عليه الملائكة من ديمومة العبادة، ولا يتصف الملائكة بما يتصف به البشر من إرادة حرة مختارة، فقد جبلوا على الطاعة فـ: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، فحصل بطباق الإيجاب بين مادة العصيان في معرض النفي ومادة الفعل في معرض الإثبات حصل به كمال التقرير لمعنى الطاعة الجبلية في الطبيعة الملائكية، وتنزهوا عن الشهوات الحسية، مع افتقارهم إلى رب البرية، جل وعلا، الذي أوجدهم من النور، فأجسامهم نورانية لطيفة لا تجري عليها أحكام أجساد البشر الطينية الكثيفة، ومع ذلك اللطف الكائن في جبلتهم، لا ينفكون عن الفقر الذاتي إلى موجدهم، جل وعلا، فلولا تقديره ما وجدوا ابتداء، ولولا قدرته ما استغنوا عن أسباب الحياة الحيوانية من مطعم ومشرب ومنكح .... إلخ، ولولا حكمته ما صبروا على ديمومة العبادة ليحصل التمايز بين أجناس الخلق، فمنهم من غلب عليه الجانب النوراني فطبعه ملائكي لا يفتقر إلى سبب أرضي، ومنهم من جمع الوصفين وهو الآدمي الذي توجه إليه الخطاب التكليفي، فلروحه خطاب يلائمها بالعلوم النافعة والأعمال المزكية، ولبدنه خطاب يلائمه فأحكام البدن من سنن فطرة ظاهرة وآداب عادات جبلية .... إلخ قد استوفت الشق المادي للآدمي، كما استوفى خطاب الوحي الشارع بعلومه وأعماله الشق المعنوي له، وتلك مئنة ظاهرة من كمال الرسالة الخاتمة التي جمعت بين الروح اللطيف فهو إلى الطبيعة الملائكية أقرب، والبدن الكثيف فهو إلى الطبيعة الحيوانية أقرب، فكان هذا التوازن البديع الذي افتقدته أمة يهود بماديتها الشوهاء، وأمة النصارى بمثاليتها الجوفاء، ومنهم من غلب عليه الوصف الطيني وهو الحيوان فعقله محدود لا يتحرك بقوته البصرية والتخييلية إلا لتحصيل ما هو محسوس من مأكل ومشرب .... إلخ، فتلك غاية مداركه، فالحس الغليظ عليه غالب، والمعنى اللطيف عنه غائب.

فذلك وصف الأنبياء في أبدانهم، فالأصل فيه الشركة مع بقية البشر، فهي، كما تقدم، تحسم مادة الغلو فيهم، فمن الطين قد خلقوا، فنسبتهم نسبة أبيهم آدم عليه السلام، فـ: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، ولذلك جاء النص في مواضع كثيرة على بشريتهم وعبوديتهم، وإن كانت عبودية خاصة تليق بحالهم الكاملة ولكنها كما تقدم لا تنفي عنهم وصف العبودية العام الذي يشترك فيه سائر الخلق من الإنس والجان، فـ: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)، و: (مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، و: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ)، فهو عبد مربوب فيه من وصف البشرية ما يباين وصف الملائكية فضلا عن وصف الإلهية!، فلو شاء الرب، جل وعلا، لاستخلف الملائكة بدلا من البشر فكان

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير