تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فجاء خلق آدم الإيجادي في عالم الشهادة تأويلا لخلقه التقديري في عالم الغيب قبل خلقه وخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكذلك الشأن في خلق المسيح عليه السلام، فخص كما خص آدم عليه السلام بالخلق بكلمة كونية خاصة لمكان الآية الكونية الباهرة بخلقه من أم بلا أب، فلو كانت تلك ذريعة صحيحة إلى غلو بنسبته إلى ألوهية أو بنوة إلهية تجسد فيها وصف الكلمة في أقنوم بائن من ذات الرب، جل وعلا، لو كانت تلك ذريعة صحيحة إلى هذا الغلو فآدم أحق بهذا الوصف!، فإذا بطل في حق آدم بالإجماع فهو باطل في حق المسيح عليه السلام من باب أولى فذلك مقتضى قياس الأولى الصريح، فكل مخلوق قد خلق بكلمة كونية فيصح من هذا الوجه إطلاق وصف الكلمة على كل مخلوق، ولكنها كلمات عامة لم تختص بما اختصت به الكلمة التي خلق بها المسيح عليه السلام من الإضافة، فهي كلمة خاصة وقعت بها آية كونية باهرة بخلق ذات رسول كريم في رحم صديقة بتول فألقاها الرب، جل وعلا، إلى مريم، عليها السلام، إلقاء السبب، فبها، كما تقدم، خلق المسيح، عليه السلام، فنفخ الرب، جل وعلا، من الروح الأمين عليه السلام في رحم البتول عليها السلام، فـ: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)، فتحققت صورة السبب الذي به تكون الأجنة في الأرحام بنفخ ملك الأرحام عليه السلام، ولكن لما كان الجنين شريفا والآية باهرة، كما تقدم، كان النافخ هو روح القدس عليه السلام فتمثل للبتول بشرا سويا ونفخ في جيب درعها فسرت نفخته إلى رحمها، فتلك صورة السبب، فكان المسبَّب الشريف عليه السلام أثر كلمة الرب، جل وعلا، الكونية النافذة: "كن"، فاختص المسيح عليه السلام بكلمة واختص بنفخة لمكان نبوته وآيته، وهو مع كل ذلك التشريف نبي كريم برسم العبودية فـ: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ)، فهو: كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه: فذلك من الإطناب في وصفه بيانا لما قد يخفى من حاله فهو روح عظيم، فالتنكير للتعظيم، فذلك مما يناسب حاله الشريفة، صدرت من الرب، جل وعلا، صدور المخلوق من خالقه، فباينت جهة الصدور هنا جهة صدور الكلمة، فالكلمة صادرة صدور الوصف من الموصوف، والروح كروح آدم عليه السلام: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)، صادرة صدور المخلوق من خالقه، فـ: "من" لابتداء الغاية، فابتداء غاية صدور روح المسيح عليه السلام: الروح الشريف المخلوق بكلمة كونية خاصة، ابتداء صدوره من الرب، جل وعلا، صدور المخلوق من الخالق، جل وعلا، كما تقدم، فاختص بالذكر في هذا المقام تشريفا كما اختص بالذكر في مقام إضافة الكلمة التي خلق بها إلى من تكلم بها جل وعلا، فكلٌ يصح في حقه أنه روح من الله، فابتداء غاية خلق روحه من الله، عز وجل، ولكن ذلك الابتداء: ابتداء عام، بخلاف ابتداء غاية خلق المسيح عليه السلام، فهو خلق عجيب، كما تقدم، فيحسن معه إضافته إلى الرب القدير الحكيم جل وعلا.

فشهد بعض بكل ما تقدم بلسانه ولم يشهد قلبه ولم تشهد جوارحه، فهو في حد النفاق داخل سواء أكان نفاقا أكبر برسم: (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ)، أم أصغر فآية المنافق: "ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان".

وشهد بعض شهادة الحق، فـ: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وكفى بها كرامة لهم، فعلمهم بالعمل قد تأيد وقام، فالقسط وصفه، وبالعدل قامت السماوات والأرض، وبالعدل قامت الممالك، وأعدلها باستقراء الوحي المقروء والتاريخ المسطور والواقع المشهود، أعدلها ممالك النبوة، فرسمها: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير