تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

التي تباين كل الذوات فلا تحل أو تتحد بذات أرضية، فذلك معنى يبطل ما تقدم في الآية من انفراده، جل وعلا، بسعة الرحمة التي لا تدانيها رحمة، فذلك فرع عن كمال ذاته القدسية التي لا تدانيها ذات أرضية طينية فالقول بالامتزاج والاتحاد بينهما قول ينكره النقل والعقل والحس السليم والفطرة التوحيدية الأولى، فإن أي اتحاد يلزم منه اكتساب الكامل من الناقص أوصافا دنية ولو بمقتضى الجبلة البشرية التي لا تنفك عن عوارض النقص والحاجة بل عن عوارض تعرض للأهلية فتجعل المحل غير قابل لآثار الشرع التكليفي الحاكم فيسقط التكليف بزوال العقل أو عجز الآلة عن أداء العبادة على تفصيل في ذلك، وكل تلك المعاني التي تطرأ على البشر لا يتصور بداهة ضرورية أن تقوم بذات الرب، جل وعلا، فتلك مقالة من جنس مقالة يهود الذين أثبتوا لله، جل وعلا، النصب واللغوب، فجوزوا قيام وصف البشر به، فذلك نوع تمثيل مذموم، فكيف بمن وقع في عين التمثيل فجوز أن يحل الرب، جل وعلا، بذاته ووصفه حلولا كليا في عبده، بل أن يتحد به اتحادا يفوق اتحاد الروح بالجسد، فهو امتزاج يتعذر فصل مكوناته!، فالروح وإن كان لها نوع اتصال وثيق بالجسد إلا أنها تباينه في الماهية وتنفصل عنه حال حلول الأجل فلها ذات تستقل بنفسها، فمجاورتها للجسد برسم التأقيت في الدار الأولى، أو التأبيد في الدار الآخرة بل ممازجتها له لا تعني تعذر الفصل فخروج مادة الروح اللطيف من الجسد الطيني الكثيف مظنة تعفنه وفساده، وذلك أمر يدركه الحس الظاهر، وهو المطرد من جال أجساد البشر إلا ما استثني بنص فـ: "إن الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء"، فذلك من التحريم الكوني فيجري مجرى التحريم في نحو قوله تعالى: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)، و: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ)، فأضيف الفعل إلى ضمير الجمع تنويها بذكر تلك الآية الكونية العجيبة التي ظهر بها من كمال عناية الرب، جل وعلا، بالكليم عليه السلام وأمه ما ظهر، أو كرامة فكثير من الصحابة والأولياء والشهداء لم تتغير أبدانهم بعد الدفن وتطاول الأزمان، وذلك أمر غير واقع في مقالة الاتحاد، فالامتزاج فيها كلي بين الطورين: اللاهوتي والناسوتي، في تكلف في مضادة العقل والفطرة فضلا عن الشرع لا يخفى وتلمس لتخريجات عقلية مستغلقة لا يؤمن بها من يروج لها فضلا عمن يسمع منه فيقلده تقليد الأعمى لقائده مع صحة آلاته التكليفية فاستطاعته الشرعية كاملة وإنما ضل لما سلبه الرب، جل وعلا، الاستطاعة الكونية التوفيقية فلم يوفق إلى انتحال الحق الظاهر الذي يشهد له نص الشرع وقياس العقل فاستبدل تلك المقالة الردية بمقالة النبوات العلية، مقالة: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)، و: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فالأولى تنبني على الثانية كما ينبني اللازم على ملزومه، فتوحيده في الألوهية برسم: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ): فرع عن توحيده في الربوبية ومن آكد خصائصها الإحاطة السمعية والبصرية، فـ: "أل" في "السميع" و "البصير" مئنة من الاستغراق المعنوي لأوصاف السمع والبصر الكاملة وما يتفرع عنها من كمال العلم كما تقدم فهو منصب لا يقبل الشراكة فلا ينفرد به إلا الرب الواحد الأحد، الإله المعبود بحق فلا معبود بحق سواه إذ لا خالق رازق إلاه، ولو سلم بأن امتزاج اللاهوت والناسوت من جنس امتزاج الروح والجسد فإن ذلك لا يجوز هذه المقالة من وجهين:

الأول: أن الامتزاج بين الروح والجسد امتزاج بين مخلوقين فيتصور ذلك عقلا ويجوز في الخارج فهو أمر ظاهر مشهود.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير