تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ: فذلك من التتميم لمعنى المنة فجعلت من الشعائر فذلك تكليف، وسخرها الرب، جل وعلا، للنوع الإنساني على جهة الاصطفاء والتشريف، فالكون بأرضه وسمائه، بأحيائه وجماداته له مسخر، فناسب مقام الامتنان: إضافة الفعل إلى ضمير الجمع تعظيما كما تقدم في إضافة الجعل في صدر الآية، وحصل بذلك التلاؤم بين ألفاظ لسياق الواحد فضلا عن التلاؤم بين المعاني فمعنى العظمة في كليهما ثابت.

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: فذلك من التلازم المطرد بين حكم الربوبية فالتسخير يكون بالأمر الكوني، وحكم الألوهية بالشكر فهو تأويل الأمر الشرعي بالقلب واللسان والأركان فالشكر يكون بها جميعا.

لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ:

فتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل فذلك مئنة من العموم، وهو مما يحسن في مقام نفي وصف الافتقار عن الرب الغني، جل وعلا، فالرب، جل وعلا، هو الغني في ذاته فله وصف الغنى المطلق فلا يفتقر إلى سبب يوجد فهو الأول أو سبب يمد فقد تنزه عن أوصاف النقص الجبلية من أكل أو شرب فتلك مظنة الافتقار إلى الإمداد بأسباب الحياة، وليس الأول الآخر الباقي بعد فناء خلقه بمفتقر إلى سبب خارج فذلك من المعلوم الضروري الذي خالفه كل ظالم بغي تعدى على مقام الربوبية فوصف الرب، جل وعلا، بأوصاف النقص الجبلية من حدوث لناسوت في رحم البتول عليها السلام، وافتقار إلى طعام وشراب وما يلزم من ذلك من حدث وخلاء، فتلك أمور لا تثبت في حق الغني الذي له كمال التدبير الكوني، بل يجب نفيها عنه وتنزيهه عنها عقلا قبل أن ترد الشرائع بذلك، فهو معلوم عقلي ضروري زادته الرسالات توكيدا وبيانا، ففصلت مجمل أوصاف الجمال والجلال، وأجملت في التنزيه مع إثبات كمال ضده من وصف الكمال، وأطنبت في مواضع درءا لشبهة أو تصور فاسد، كما في الإطناب في مقام النفي في سورة الإخلاص فهي فرقان بين الإسلام والنصرانية وسائر الملل والنحل الردية التي تصرح أو تجوز قيام وصف النقص بالذات الإلهية، فلم يلد فهو الغني عن الولد فلا يفتقر إلى من يعاونه فله كمال القدرة والقوة، فـ: (لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ)، ولا يفتقر إلى ولد ليبقى ذكره فهو الأول الآخر الباقي، بل صلاح العالم إنما يكون بديمومة ذكره على جهة الثناء، مع كمال استغنائه عنه، فذلك من جنس ما ذكر في الآية فلن يزيده الثناء والشكر بالقول أو الفعل كمالا فـ: "لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك"، فقد استغنى بثنائه على نفسه عن ثناء خلقه عليه، وإنما يثني عليه المثنون طلبا لمرضاته وشوقا إلى جناته، فذلك من وجوه الفقر الذاتي فيهم في مقابل غناه الذاتي عنهم، فلا ينفكون عن افتقار إليه في الأولى ليمدهم بأسباب الصلاح الكوني والشرعي، وافتقار إليه في الآخرة ليدخلهم جناته برسم التأبيد فيحظون بجواره في دار النعيم الكامل الناصح من شوب وكدر الآلام والأحقاد، فـ: (نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)، ولم يولد فهو الغني عن سبب يوجده فله الوجود برسم الأولية المطلقة للذات القدسية وما قام بها من الصفات العلية فلم يكن معطلا عن كمال ثم حدث له كما يحدث لآحاد الخلق من زيادة في الوصف بتكرار الفعل، بل أفعاله، جل وعلا، هي، كما تقدم، آثار كماله الوصفي جلالا وجمالا.

فإذا أراد خراب العالم قطع ذكره فقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى إلا شرار الخلق فلا يثنون عليه، فانتفت مادة صلاح الكون ووجبت مادة فساده بانقطاع أثر النبوات النافع من ذكر وتسبيح، فذلك مؤذن بخراب العالم وقيام الساعة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير