تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فهو الغني فلا يصل إليه اللحم والدم، فإنما ينتفع باللحوم من يحتاج إليها ليحفظ بدنه من الفساد فالمطعوم سبب كوني لحفظ النوع الإنساني، بل هو المغني على جهة التعدي فغناه لازم لذاته متعد لغيره، فيغني غيره بما يسر له من أسباب الكون والشرع، فغنى الأبدان في المطعوم والمشروب، وغنى القلوب في المنقول من أخبار النبوات والمعقول من أحكامها التي يدرك العقل عللها فقد جاءت على أحكم وصف وأعدل وجه فهي من شريعة رب العالمين الموصوف في التنزيل بأنه أحكم الحاكمين في قوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)، فذلك من الاستفهام التقريري فتسلط الاستفهام على النفي من جنس تسلط النفي عليه، ونفي النفي إثبات إلا إذا دلت القرينة على إرادة توكيد النفي بالتكرار، وذلك خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا بقرينة ناقلة عن الأصل، فعلى الناقل الدليل ويكفي المستمسك بالأصل البراءة الأصلية، وذلك أمر مطرد في سائر الأحكام الشرعية والعقلية واللسانية ...... إلخ.

فلن يناله: لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، ولكن يناله التَّقْوَى مِنْكُمْ: فذلك من طباق السلب إمعانا في تقرير المعنى بالنفي لوجه والإثبات لآخر، فيصل إليه على جهة الاستدراك: التقوى، فتصله إحصاء في الشهادة فهو العليم بها تقديرا في الغيب، فـ: "يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَليَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَه"، فلا ينتفع بالتقوى، كما تقدم، وإنما ينتفع بها المتقون، فتصل إليه فذلك من فضله على المتقين أن يسر لهم اسبابها فليس لهم فضل عليه فهو الذي خلقهم وخلق فيهم العلم النافع بالوحي النازل، وخلق فيهم الإرادات الصالحة وما يتولد عنها لزوما من الأقوال والأفعال الكاملة، فلا يصل إليه شيء خارج عن إرادته، بل هو الذي قدره ويسره لهم فكيف تكون منة لهم عليه، وكيف يصح في الأذهان تجويز افتقاره إلى طاعة طائع أو لحوق الضرر والنقص به بمعصية عاص، وهو الذي قدر كليهما أزلا بعلمه الأول، وأوجد كليهما بقدرته النافذة وحكمته البالغة في خلق الأضداد وتدافعها على نحو يكون به صلاح العالم، فـ: (لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)، فخلق الطاعة في الطائع فضلا، وخلق المعصية في العاصي عدلا، وظهرت آثار صفاته جلالا بقدرة نافذة على خلق الأضداد، وحكمة بإمداد كلٍ بما يلائمه من مادة خير إن كان المحل صالحا قابلا لآثار الرسالات، أو مادة شر إن كان المحل فاسدا غير قابل لآثار الرسالات، فـ: "مثل ما بعثني اللَّه به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا؛ فكانت منها طائفة طيبة قبلتِ الماء فأنبتتِ الكلأ والعشْب الكثير، وكانت منها أجادِب أمسكت الماء فنفع اللَّه بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقِه في دين اللَّه ونفعه ما بعثني اللَّه به فعلِم وعلم، ومثل من لم يرفعْ بذلك رأْسا ولم يقبل هدي اللَّه الذي أرسلت بهِ"، فمنهم من يمسك آثار الرسالة فينتفع بها في نفسه وينفع بها غيره، فخيره لازم في نفسه متعد لغيره، وهو أكمل صنف، ومنهم من يمسكها لغيره فهو وعاء للخير وإن لم ينتفع به، ومنهم من لا ينتفع بالوحي ولا يمسكه لينتفع به غيره فذلك أخس الثلاثة، فلا خير فيه لنفسه ولا خير فيه لغيره، فاستوفى السياق أصناف الناس في قبول آثار الرسالات.

كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ: فذلك من الإطناب بالتكرار لما تقدم في الآية السابقة، كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله، ليحصل مزيد تقرير لمعنى التلازم الوثيق بين أحكام الربوبية بتسخير البدن وسائر أعيان الكون للنوع الإنساني على جهة الامتنان، وأحكام الألوهية: (لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ)، فالتكبير مشروع عقيب كل عبادة، فتكبير بعد الصلاة، فذلك من جملة الأذكار المشروعة بعدها، وتكبير بعد الصيام: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير