تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قد استبدلوا الذي هو أدنى من قياس العقل بالذي هو خير من حكم النبوة، فقياس العقل الفاسد وسيلة من يعارض الرسالة من أصحاب التصورات العلمية الحادثة والإرادات العملية الباطلة، فهو مما يكذب به الخبر الصادق ويعطل به الحكم العادل.

والشاهد أن خطاب المؤمنين في الآية يتوجه إليهم أصالة لكونهم الفئة الغالبة في المدينة، فهو من خطاب المواجهة الذي ينظر فيه من جهة الخصوص إلى أعيان المخاطبين، وينظر فيه من جهة العموم إلى المعنى فيشملهم ابتداء فهم أمة الإجابة ويشمل غيرهم من المكلفين من أمة الدعوة وإن لم يستجيبوا لداعي الوحي، فعمومه في حقهم ثابت بقرينة عموم خطاب التنزيل الخاتم، فتلك قرينة تستصحب في كل خطاب تكليفي بتصديق خبري أو أمر ونهي إنشائي، في شريعة الإسلام الآخرة فهي آخر الشرائع فلا شريعة بعدها، وهي أحكم الشرائع فلا ناسخ لها، وفي توجه لفظ الخطاب إليهم دون غيرهم: تنويه بذكرهم وتعظيم لشأنهم، وتعريض بمن ليس على وصفهم، فذلك مما يحمله على سلوك جادتهم، فالإعراض عن ندائه ولو برسم العموم في نحو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ): إهمال لذكره فهو مظنة التحقير لشأنه في مقابل تعظيم شأنهم بنداء البعيد فهو في سياق نداء المؤمنين مظنة علو المتزلة ورفعة الدرجة فيفيد بمفهومه سفل وضعة من دونهم ممن قام به ضد وصفهم، فالناس إما مؤمن ولو برسم النقصان، وكافر يذم لكفره فهو مظنة التنقيص والتوبيخ بنداء البعيد، أيضا، ولكن على جهة السفول، فـ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)، فمادة نداء البعيد تقبل الانقسام فمنه المحمود فهو مظنة العلو في حق المؤمنين ومنه المذموم فهو مظنة السفل في حق الكافرين، فصار من هذا الوجه مشتركا لفظيا بل هو من الأضداد فيحتمل المعنى ونقيضه، ولا يحسم النزاع في تعيين مراد قائله إلا قرينة السياق الذي يرد فيه، فسياق نداء المؤمنين مظنة المدح وسياق نداء الكافرين مظنة القدح كما تقدم.

ولا يخلو النداء من نوع تنبيه يحمل في حق المؤمن على معنى التذكير واسترعاء الانتباه وشحذ الهمم ..... إلخ من المعاني الشريفة، ويحمل في حق الكافر على معنى التوبيخ لغفلته فاسترعاء الانتباه في حقه ليس من جنس استرعاء انتباه المؤمن الذي لا يغفل إلا عرضا، فلا يستوي من ديدنه الغفلة ومن دينه اليقظة.

ولا يخلو نداء المؤمنين أو الكافرين بنداء البعيد من تعظيم لمقام الرب، جل وعلا، فهو العلي، والعلو مظنة البعد، ومنه البعد المعنوي فصفات الرب، جل وعلا، فد باينت صفات العباد فبينهما بون شاسع، من جنس البون بين الذات القدسية والذات الأرضية، وذلك مما يبطل مقالات أهل الحلول والاتحاد فهي تبطل معاني العلو الثابتة للرب، جل وعلا، ففيها من المحالات العقلية ما يرده قياس العقل الصريح، فتجويز اختلاط أكمل الذوات التي لا تدرك العقول كنهها ولا تحيط بكمالها بذوات المخلوقات الحادثة ولو شريفة كذوات الملائكة أو النبيين: تجويز لمحال عقلي فبه ينفى ما ثبت للرب، جل وعلا، من العلو الذاتي والوصفي الذي يدل عليه نداء البعيد في خطاب التنزيل، وبه يجوز أصحاب تلك المقالات الفاسدة: طروء وصف النقص على ذات ووصف من له الكمال الذاتي والوصفي أزلا وأبدا وديمومة لا تنقطع بسنة أو نوم أو لغوب ...... إلخ من عوارض النقص الطارئ التي تجوز في حق المخلوق وتمتنع في حق الخالق جل وعلا.

وبعد النداء على المؤمنين بموصول أفاد تعليق الحكم عقيبه على وصف الإيمان كما تقدم، بعد النداء الذي استرعى انتباه المخاطب جاء التكليف الشرعي:

أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ: من الذهب والفضة فتلك الأموال الباطنة وقد ألحقت بها عروض التجارات، فأنفقوا على جهة الإيجاب والندب معا، فوجوه الإنفاق منها الواجب ومنها المندوب، فالأمر في هذا السياق قد دل بالاشتراك على المطلوب فريضة والمطلوب نافلة فبينهما اشتراك معنوي في أصل المعنى فجهة الفعل في كليهما ترجح جهة الترك، وجاء القيد بالطيب، فـ: "إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا"، فأنفقوا من جنس الطيب، فـ: "من": جنسية بيانية، وأنفقوا من بعضه، فذلك من رحمة الشارع، عز وجل، بعباده، فقد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير