تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فله الحكم الكوني والحكم الشرعي على جهة الاختصاص فحمل "أل" على العموم الجنسي لأنواع الحكم أليق بالسياق وأثرى له بجملة من معاني التوحيد القدري والشرعي ولا يتصف بهما بداهة إلا الرب الأزلي الآخر، فإليه وحده دون غيره: المرجع بعد فناء الخلق فذلك، أيضا، مما اختص به، فلا تصح في الأذهان عبودية لفان لا بقاء له، فذلك مما ينقض وصف الإحاطة بالآخرية فالرب المعبود بحق آخر يحيط بخلقه علما وعناية فهو الصمد الباقي بعد فنائهم، وهو القائل بعد هلاكهم: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)، وهو المجيب: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، ولا تصح عبودية بتأله بتأويل أحكام أهواء وأذواق مضطربة، فلا يستقيم أمر الديانة إلا بتأويل أحكام الوحي الصحيح بالتسليم وإن لم يعلم وجه الحكمة تحديدا والفعل وإن كان على غير مراد الطبع، فـ: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، فاتهام العقول والأذواق حتم لازم تبرئة للوحي من التناقض والتعارض، وذلك محل النزاع بين الرسل وأعدائهم، فالأولون قد ردوا الأمر إلى الوحي برسم التسليم والآخرون قد أبوا إلا القدح فيه بدعاوى التكذيب لألفاظه، أو التأويل لمعانيه وأحكامه، أو تجويز معارضتها لقياس العقل الصريح، كما يزعم العلمانيون في زماننا، فهي مما نزل في أعصار بدائية كانت فيها البشرية في مهد الطفولة، واليوم، قد صارت من النضج بمكان، وفساد حال الدول والممالك بتنحية الأحكام والشرائع على ذلك خير شاهد!، فإنه لا صلاح لهذا العالم إلا بتولية النبوات منصب القيادة برسم: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، فيقع التلاؤم بين قوى العلم والعمل، وتتواطأ أدلة النقل والعقل على وحدانية الرب جل وعلا بذاته القدسية وأحديته تبارك وتعالى بصفاته الذاتية والفعلية، فيصلح الوحي ما أفسده البشر، فقد: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، فظهر الفساد الذي استوجب جملة من العقوبات الكونية ليراجع الناس الطريقة الشرعية، فـ: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلًا لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم".

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ: فذلك من الإضراب الإبطالي لتهمتهم فعدت تلك من كذبات الخليل عليه السلام في ذات الله، جل وعلا، وقد أشار صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله إلى وجه لطيف يكون فيه الخبر ذا دلة إنشائية خفية، فهو خبر للتشكيك، فهو من قبيل استعمال "أو" في سياق الخبر فتفيد التشكيك إن أراد المتكلم التعمية على المخاطب، كما أشار إلى ذلك ابن هشام، رحمه الله، في "شرح قطر الندى"، فذلك قد يكون غرضا صحيحا في كلام البلغاء كما في إبهام الفاعل في نحو قولك: سرق المتاع خوفا من السارق إن كان ذا بأس وسطوة، فأراد تشكيكهم ليزيد حيرتهم فيدفعهم إلى إعمال ما عطلوه من القوى العقلية التي فسدت بطروء مادة الشرك عليها، فالشرك أعظم أسباب فساد مدركات العقل من البدهيات ومدركات الفطرة من الضروريات، فلعل الفاعل كبيرهم، فاسألوهم على جهة التهكم الذي يثير كوامن العقل والفطرة، ولا يخلو من معنى التعجيز إمعانا في إقامة الحجة، ولا يخلو كذلك من إظهار الإنصاف للمخالف استدراجا له ليسلم بنفسه ببطلان مقالته، فلك من قبيل استنطاقه بالحجة فذلك آكد في تقريرها فلا يتنصل منها بعد ذلك إلا كبرا وعدوانا برسم: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)، فاسألوهم إن كانوا ينطقون فذلك آكد في بيان عجزهم فدلالة المضارعة على التجدد والحدوث مئنة من ديمومة اتصافهم بوصف الخرس الذي يتنزه عنه الرب، جل وعلا، بداهة، فذلك من قبيل مفهوم السؤال في قوله تعالى: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، فإذا ثبت في بدائه العقول أن الخرس والصمم والعمى أوصاف نقص فتنزه من اتخذ ربا سواء أكان الرب المعبود بحق، جل وعلا، أم كان ربا من الأرباب الباطلة، فتنزه عنها، فمن ثبتت له فربوبيته باطلة فذلك مقتضى العكس في القياس، فالحكم بصحة ربوبيته دائر مع ثبوت علته من أوصاف الكمال التي تجب ضرورة في حق الرب الخالق المدبر، دائر معها وجودا، فمن ثبتت له على جهة الكمال المطلق الذي لا يقبل الشراكة فهو مقام: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ)، فهو الرب المعبود بحق فذلك مقتضى الطرد في القياس، وعدما: فمن انتفت في حقه برسم النقصان بل والعدم!، فليس ربا معبودا بحق بل هو من جملة ما اتخذ برسم: (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)، فذلك، كما تقدم، مقتضى العكس في القياس، فقياس الخليل عليه السلام قياس صحيح فهو: مطرد منعكس وحجته سالمة من المعارضة في كلا الموضعين فقد استدل بالضد على ضده، فبضدها تتميز الأشياء فأشار إلى نقص معبوداتهم ليتوصل بذلك إلى كمال معبوده الحق جل وعلا.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير