تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالتوحيد أصل كل خير شرعي أو كوني، والتشريك ضده فشره في الشرع ظاهر بنقضه لأصل الرسالات الجامع فـ: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ)، وشره في الكون يظهر في الأعصار والأمصار التي تندرس فيها آثار النبوات، فليس إلا الضيق في الأبدان بالمرض، وفي الأرزاق بالقلة والفساد، فالأرزاق شحيحة وهي مع ذلك رديئة!.

والشاهد أن علوم النبوات التي اختص أولئك المعلمون قد عمت خير العلوم توحيدا يأتي بحجته الباهرة على مقالات التشريك من تثليث ونحوه، فحجته عقلية سالمة من المعارضة قبل أن تكون شرعية سالمة من التبديل، فـ: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، فذلك من القياس العقلي الصريح ببيان القدر الفارق الثابت بالضرورة العقلية بين من يتلقى أوامره من واحد، ومن يتلقى أوامره من شركاء رسمهم التشاكس والتعارض، فلكل عقله الشارع!، فيشرع من الأحكام ما يروق لهواه أو ذوقه، والعبد حائر لا يقدر على إرضائهم جميعا فذلك من قبيل الجمع بين المتناقضات والتوفيق بين المتضادات، وإلى ذلك أشار ابن القيم، رحمه الله، بقوله:

"هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك والموحد فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحون، والرجل المتشاكس: الضيق الخلق، فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين.

والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد قد سلم له وعلم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليه لمصالحه فهل يستوي هذان العبدان.

وهذا من أبلغ الأمثال فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون"

"إعلام الموقعين"، (1/ 187).

وهو ما احتج به الخليل عليه السلام فقد نزل كبيرهم من باب الاستدراج العقلي منزلة الرب الذي يأنف من الشركة فحطم من ينازعه وصفه لينفرد بمنصب الربوبية، فرسخ مفهوم التوحيد في أذهانهم، ولو بتوحيد معبود باطل، ثم كر عليه بالإبطال فهو الذي حطم الآلهة بنفسه وترك كبيرهم أمارة على عجزه فلا يملك ولا يملكون نطقا، والرب المعبود بحق، جل وعلا، لا يكون بداهة إلا متكلما بما شاء من كلمات التقدير النافذ وكلمات التشريع الحاكم، فلا يصلح كبيرهم العاجز عن دفع الضر عنهم بل عن نفسه فلو شاء الخليل عليه السلام لأتى عليه ولكنه استبقاه ليقيم به الحجة العقلية الصريحة على قومه، ولا يصلحون من باب أولى أربابا، فذلك من بدائه العقول لمن كان له مسكة من عقل صريح، فكبير لا يغضب بالقول أو الفعل، بل لا ينطق، وقد حطمت الآلهة التي يتزعمها!، كبير عاجز لا يصلح بداهة لمنصب هو معدن القدرة النافذة والمشيئة العامة التي لا تتخلف آثارها في الكون، فإذا ثبت عجزه ثبت عجزهم من باب أولى فالكبير عاجز، فكيف بالصغير، ومع ذلك كر الخليل عليه السلام على ربوبيتهم بالإبطال الصريح بالسؤال التهكمي اللاذع: (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، فلا يملك الكبير دفعا، ولا يملك الصغير نطقا، فكيف صح في الأذهان اتخاذهم أربابا تشرع، وليس لهم من آلات التشريع: علما ونطقا ما يجوز في العقل قبول أحكامهم فهم عن منصب الحياة معزولون فكيف بالربوبية التي هي معدن كل الحيوات برسم الإحياء الكوني العام فـ: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)، والإحياء الشرعي الخاص، فـ: (كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا). بل غيرهم من الأحياء ولو كملت عقولهم معزولون عن منصب التشريع، فلا يملك ذلك إلا الرب، جل وعلا، فأصحاب الرسالات عليهم السلام لا يملكون التشريع من قبل أنفسهم، فليس لهم الحكم ابتداء، بل: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير