تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلما أقام عليهم الخليل عليه السلام الحجة من عالم الشهادة بما رأوه من عجز آلهتهم عن صد العدوان، فالحجة المرئية أبلغ من الحجة المسموعة أو المعقولة، فكلما غلظت النفس فحجبت عن الإيمان بعالم الغيب الذي لا يدرك بمدارك الحس الظاهر، كانت الحجة المحسوسة في حقها أليق، فلا يحسنُ السفهاءُ فهمَ كلام الأنبياء، وإنما يحسون بآثار المعجزات المادية، فليس لهم من المعجزات المعنوية حظ لغلظ حجب الشبهات والشهوات التي عزلت قلوبهم عن السمع، فذلك العزل الكوني من قبيل عزل الشياطين عن السمع، فـ: (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)، فهم معزولون عن سماع كلمات التكوين، والكفار معزولون عن سماع كلمات التشريع التي جاءت بها الرسالات، وإن سمعوا بآذانهم فليس لهم استماع بالقلوب فهو الاستماع الذي يحصل به الانتفاع، وليس لهم أذن واعية تعي الذكر حفظا وفهما وتأويلا بتصديق أخباره وامتثال أحكامه، فسمعوا بآذانهم الحجة الرسالية، ولم يستمعوا بقلوبهم، فقامت عليهم الحجة العلمية وحيل بينهم وبين تأويلها بأجناس علوم وأعمال الباطن والظاهر، فذلك لازم العلم النافع فلا بد أن يثمر، كما تقدم مرارا، أجناسا من العمل الصالح بالقلب واللسان والجوارح، فذلك من جنس حصول الاستطاعة الشرعية بصحة آلات التكليف وامتناع الاستطاعة الكونية بامتناع قبول محالهم لآثار الرسالات فليس لهم من الإيمان بها والتسليم والانقياد لأحكامها، ليس لهم من ذلك نصيب، فذلك مما اختص به أهل السداد ممن هدوا إلى صراط النعيم، فوفقهم الرب، تبارك وتعالى، إلى منهاج النبوة، وألهمهم الرشد، فـ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا)، فذلك من صور العناية الربانية بالمؤمنين، فنزلت السكينة فهي من جنس الأمر الكوني النازل برسم النفاذ، ونزولها على الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم خصوصا وعلى المؤمنين عموما من قبيل التنويه بذكر صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخص بالذكر لمكان العصمة والرياسة الدينية الكاملة، ثم زيد في تقرير المنة بالإطناب بذكر نزولها برسم العموم على جميع المؤمنين فذلك عموم محفوظ خص منه باعتبار الظاهر: الجد بن قيس فكان المنافق الوحيد في يوم الحديبية، فهو مؤمن باعتبار ظاهره أو مسلم يحكم له بحكم الإسلام الظاهر، فذلك أدق في الوصف، ودلالة: "على" على التمكن فالنازل على الشيء قد تمكن منه فأظله ثم خالطه، دلالتها على ذلك مما يزيد معنى المنة الربانية تقريرا، فنزلت السكينة وهي فعيلة من السكون الباطن الذي يثمر ثبات الظاهر ورسوخه حال النوازل والقوارع، نزلت برسم العموم الذي أحاط بجماعة المؤمنين، فـ: "أل" في السكينة مئنة من العموم المعنوي فاستغرقت معاني السكون الباطن والظاهر فذلك مما يزيد المنة، كما تقدم، تقريرا، و: "على" مئنة من استغراق الذوات التي نزلت عليها السكينة، وذلك أبلغ ما يكون في تقرير معنى العناية الربانية، ثم ذيل بالعلة، فـ: (أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى)، فالتزام الأمر الشرعي ذريعة إلى التأييد بالأمر الكوني بسكينة نازلة، فكلمة التقوى منهم صاعدة، والسكينة من الرب، جل وعلا، نازلة، فامتثال تكليف الألوهية مظنة نيل تأييد الربوبية عناية بالتثبيت بالوحي الكوني النافذ فاذكر على سبيل استحضار المنة الربانية السابغة: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)، وكلمة التقوى التي أضيفت إلى التقوى مئنة من الاختصاص فلا تحصل التقوى إلا بها، فذلك من قبيل إضافة السبب إلى مسبَّبه، فبها وحدها علما ولفظا، وبها وحدها تأويلا لأحكامها في الخارج سواء أكانت أحكاما قلبية من توكل ورجاء، وخضوع وخشية، وولاء لأهلها وبراء من أعدائها وتلك من أدق وظائف القلب الباطن، فـ: لا إله، براء بتخلية المحل من التعلق بما سوى الرب جل وعلا، فبها تنتفي ألوهية ما سوى الرب، جل وعلا، من المعبودات الباطلة سواء أكانت معقولة أم محسوسة،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير