تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فيتجرد القلب من التعلق بالأوثان، ويتجرد من الرضا بالطغيان الروحي أو الشرعي الذي يمارسه رءوس الباطل من أصحاب المقالات الفاسدة التي يعارض بها تصور النبوات العلمي فهي التي أبانت عما يجب للرب جل وعلا من أوصاف الكمال وما يمتنع في حقه من أوصاف النقص وما يجب له عقلا من انفراد بمنصب الربوبية التكوينية والتشريعية فذلك لازم كماله الذاتي والوصفي، وما يجب له شرعا وعقلا من إفراد بمنصب الألوهية بمقتضى ما شرعه على ألسنة رسله من كلمات الوحي النازل فبها صلاح الباطن والظاهر، بل صلاح الدين والدنيا، فالوحي مادة حفظ الأديان والأبدان فشؤم انقطاعها أو انحسارها مما نرى آثاره في الأعصار المتأخرة وبركة اتصالها مما نقله إلينا التاريخ: شاهد العدل من آثار الصلاح في الأعصار المتقدمة، فيتجرد القلب بنفي الألوهية عن معبودات البشر الباطلة من المقالات الفاسدة والشرائع الحادثة التي يعارض بها حكم النبوات العملي الذي يستغرق أقوال وأفعال المكلف الظاهرة من أذكار وشعائر ومعاملات وسياسات خاصة تحكم بها الجماعة المسلمة وسياسات عامة تحكم بها علاقة الجماعة المسلمة بمن يعيش فيها من معاهدين برسم الإقامة الدائمة أو المؤقتة من رسل أو تجار يدخلون ديار الإسلام بعقد الإيمان فذلك من قبيل القانون الدولي الخاص، وعلاقة المسلمين بأعدائهم من الحربيين زمن السلم والحرب فذلك من قبيل القانون الدولي العام، وأخلاق جاءت برسم الكمال الشرعي فـ: (إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، فأعظم الأخلاق وأرسخها ما كان مستنده شرعيا، فيمارسها صاحبها برسم الإحسان والمراقبة للرب، جل وعلا، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، فتلك مراقبة القانون الإلهي المحكم، بخلاف مراقبة قانون البشر المضطرب فصاحبه يغفل وينام بل ويموت ويفنى، فحياته حادثة وعلمه وحكمته طارئة برسم النقصان فلا يعلم الغيب إلا الله، عز وجل، ولا يعلم وجه الحكمة في الشرائع سواء أكانت تعبدية غير معللة في عقول البشر أم معاملات تدرك العقول عللها، لا يعلم وجه الحكمة على وجه الدقة إلا من له العلم المحيط برسم العموم فـ: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)، فيعلم الدقائق والجلائل، ويعلم الماضي والحاضر والمستقبل القريب الذي يفضح بنوازله اضطراب عقول البشر في إدراك وجه المصلحة فتبدل الدساتير بتبدل الأحوال برسم النسخ الذي لا يكون إلا في الشرائع النازلة، فقد نزلوا نحاتة أذهانهم منزلة الشرائع المحكمة، وإن صح ذلك التعديل وصح إطلاق وصف النسخ عليه تجوزا: فهو في المصالح المرسلة التي لم يشهد لها الشرع المحكم باعتبار أو إلغاء، لا فيما فصل الوحي فيه المقال اعتبارا بحل أو إيجاب، أو إلغاء بتحريم، فذلك من المحكم الذي لا يجوز نسخه إما لكونه من أصول الديانة من عقائد وشرائع وأخلاق لا يصح في الأذهان نسخها فلا ينسخ التوحيد بداهة، ولا ينسخ الصدق بداهة فيصير الكذب واجبا أو مباحا برسم الإطلاق، وإما لكونه مما أحكم من فرائض وحدود ...... إلخ من الأحكام الفقهية الفروعية، فقد أحكمت فلا يطرأ عليها النسخ لانقطاع خبر الوحي فهي من المحكم لغيره.

فإذا تجرد من معبودات باطلة، صار المحل قابلا لآثار التوحيد النافعة، فجاء الإثبات "إلا الله": تحلية فلا معبود بحق إلا هو، فلا معبود يصح في الأذهان أو الشرائع إلا المعبود بحق فما سواه الباطل، فقد انفرد برتبة الكمال الذاتي والوصفي، فآثاره في الكون ظاهرة بالخلق البديع والتقدير الحكيم، فـ: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، وآثاره في الشرع ظاهرة فلا أعدل من أحكامها، فمعنى العدل يعم سائر المقدرات الكونية برسم النفاذ، وسائر المقدرات الشرعية برسم الابتلاء، فكلها على سنن العدل تجري فالأولى أثر القدرة النافذة، والثانية أثر الحكمة البالغة، فالكلمة هي: لا إله إلا الله الذي خلق الكون من أجلها وحفظت أركانه بترديدها.

والشاهد أن الخليل عليه السلام قد أقام عليهم حجة عقلية دامغة بمقدمات ضرورية تستمد من مدارك الحس الظاهر السالم من الآفات وبدائه العقل الناصح من الأوهام والخرافات، فهي آلهة عاجزة عن صد العدوان عن نفسها، فعجزها عن صد العدوان عن غيرها ثابت من باب أولى، وهي آلهة لا تتكلم فنقصان ذاتها الحادثة وأوصافها مانع عقلي ضروري من ثبوت وصف الربوبية لها، فالرب لا يكون ضرورة إلا كامل الذات والوصف، فثبت لديهم بمقالة إمام الموحدين بطلان آلهة المعددين، وبطلان مقالتهم:

فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ:

فالتوكيد بالناسخ واسمية الجملة وضمير الفصل والحصر بتعريف الجزأين، فأنتم لا غيركم: الظالمون بوضع الشيء في غير محله ونسبة الحكم إلى محل لا يليق به، فنسبة الحكم بالربوبية إلى محل ميت لا ينطق ظلم بين بل هو أعظم الظلم، فأنتم الظالمون المستجمعون لأوصاف الظلم علما وعملا، فالشرك فساد للقوة العلمية الباطنة والقوة العملية الظاهرة.

ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ: فمنعهم الكبر من الإيمان وإن حصلت صورته العلمية في قلوبهم، فلا يكفي التصديق العلمي إن لم يشفع بالتصديق العملي بالقلب انقيادا وباللسان والجوارح بمباشرة صور العبودية الظاهرة من قول وفعل يصدق ما قام بالقلب من التصور والإرادة، فما هؤلاء ينطقون، فالمضارعة مئنة من ديمومة اتصافهم بنقص قادح في ذواتهم فلا يثبت لهم منصب الربوبية بداهة، فالرب، جل وعلا، لا يكون، كما تقدم، إلا سلاما من العيب قدوسا عن النقص، فهو السبوح القدوس الذي له ربوبية الملائكة والروح، فثبوت ربوبيته لما دونها من الكائنات ثابت من باب أولى.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير