تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إيجادا وتدبيرا فالإرادة ترجح جانب الفعل على الترك فإذا أراده الرب جل وعلا فقد شاء وقوعه بداهة فيقع حتما فلا راد لمشيئته فكل ما يريده كونا يقع وكل ما يريده شرعا يلزم وإن خالف من خالف من المكلفين فلم يخرجوا بالمخالفة عن حد الإرادة التكوينية النافذة فلا يخرج العباد عن الشرع إلا بمقتضى الكون لحكمة بالغة تظهر آثارها بتركهم التكليف فهي غير مرادة بالنظر إلى الشرع فلم تشرع المخالفة للوحي بداهة فذلك مما يذم فاعله ويؤاخذ ومرادة بالنظر إلى الكون فبها يستخرج الرب جل وعلا من الحكم اللطيفة والمصالح الدقيقة ما لا تدركه عقول البشر،

فيظهر أثر صفاته الفاعلة في كلمات كونية نافذة، تتوالى بتوالي الإرادات الكونية، فيقع الفعل، كما تقدم، تأويلا لتلك الكلمات، فلكل حدث في الكون كلمات بها يقع على ما قد قدر الرب، جل وعلا، في الأزل، فكلمات للإحياء بها تكون الحياة، وكلمات للإماتة بها يكون الموت ......... إلخ، فالكلمات تتنوع وتتفاضل باعتبار أثرها، لا باعتبار من تكلم بها فكلها عن الرب، جل وعلا، صادرة، وبهذا التنوع والتفاضل تظهر صور من القدرة الربانية والحكمة الإلهية فتوجد الأشياء على هيئات دقيقة محكمة تدل على كمال قدرة وحكمة من أوجدها، وتوجد، وإن كانت في نفسها ضارة، على وجه يقع به النفع، ولو آجلا، وذلك مئنة من كمال العلم فعلمه، جل وعلا، قد أحاط بالحال والمآل فجاء شرعه على أحكم صورة وأعدل شرعة وذلك فرقان بين شرع العليم وشرع الجهول فالعليم قد أحاط بالحال علما فيشرع ما يلائمه فـ: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)، والمآل خبرا، فيشرع ما تقع به المصلحة إما ابتداء، وتلك حال أكثر الأحكام فهي شرع مبتدأ، كما أن أكثر آي الكتاب العزيز وحي مبتدأ فلم يتقدمه سبب نزول، وإما نسخا بتغير وجه المصلحة فيدور الحكم معها وجودا وعدما فذلك من صور الدوران الشرعي للحكم التكليفي مع علته التي بها يصير الحكم مظنة الصلاح، فكما تدور الأحكام الكونية مع عللها وجودا وعدما فلا يكون حمل بلا نكاح، فالنكاح علته، ولا شبع بلا طعام، فالطعام علته ........ إلخ، فكذلك الأحكام الشرعية فهي دائرة مع عللها التي هي مظنة الحكمة التي يقع بها الصلاح، أيضا، فـ: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)، فينسخ الحكم بزوال علته فيزول وجه المصلحة فيه، بل تصير المصلحة في ضده، فيرتفع الحكم المتقدم بآخر متراخ عنه على وجه ينتفي فيه البداء فعلم الرب جل وعلا قد أحاط بالأول والآخر، فظهر بتعلق الصلاح الكوني بقدره النافذ، والصلاح الشرعي بقدره الحاكم، ظهر من ذلك من آثار حكمة الرب، جل وعلا، ما ظهر، فالحكمة تظهر آثارها في قدره الكوني النافذ وقدره الشرعي الحاكم، فهما مئنة من كمال الحكمة وذلك أمر يعم الشرائع، فكلماتها قد توقع صنوفا من المشقة المعتادة فلم تأت الرسالات بتكليف ما لا يطاق مما تحصل به المشقة العظيمة فالرب، جل وعلا، غني عن تعذيب عباده لأنفسهم بضروب من الرياضات الحادثة التي لم تأت بها شرعة نازلة، فدين الأنبياء بتوسطه ليس من دين الرهبان بغلوه وتطرفه في شيء، فـ: "أي الأديان أحب إلى الله عز وجل قال: الحنيفية السمحة"، فإن وقعت مشقة عارضة محتملة لا ينفك عنها أي فعل بشري، ولو كان عادة جبلية، فتحصيل أسباب المأكل والمشرب يوقع المكلف في نوع مشقة ولو في شرائه وإعداده فضلا عن السعي في تحصيل ثمنه!، فإن وقعت تلك المشقة فهي مما يتسامح في وقوع مثله فأثره النافع في الأولى والآخرة يعين المكلف على احتماله، وتلك عين الحكمة التي جاءت بها الرسالات فلا يحتمل الأذى العارض إلا من حصل له التصور الصحيح الكامل لمعاني الابتلاء الشرعي، فـ: (لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)، فبه يستنبط مكنون الصدر ومخبوء النفس فيمتاز الخبيث من الطيب، فيصير كلٌ أهلا لما قدر له أزلا من النجاة فضلا أو الهلاك عدلا، فلا ينفك قدر الرب، جل وعلا، عن فضل عام على البشر أجمعين، فـ: (لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير