تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تغدو خماصا وتروح بطانا"، فبذلت السبب بالغدو، فنالت ما قد قدر لها بالسعي في نيله، فمباشرة السبب برسم الشرع لا يعارض وقوع أثره برسم الكون، فلن يكون شبع إلا بإذن الرب، جل وعلا، وعلى هذا فقس في كل أسباب هذه الدار فالمؤمن هو أسعد الناس حظا بها فيناله أثرها الكوني فذلك مما يشترك فيه مع الكافر، وإن كانت البركة في حقه أعظم، فـ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ"، ويستقل بالأثر الشرعي فهو مأجور بمباشرته على الوجه المشروع واستحضار نية صالحة ترضي الرب جل وعلا، فـ: "في بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"، فذلك من قياس العكس فلو وضعها في حرام لأثم، ولو وضعها في حلال بنية إعفاف واستعفاف لأجر، ولو وضعها في حلال بلا نية لخرج كفافا فتلك أوجه القسمة العقلية في مباشرة السبب.

والشاهد أنه في معرض بيان المنة الربانية السابغة على الخليل عليه السلام، يحسن إضافة الفعل إلى ضمير الجمع فهو موضع جلال تظهر فيه آثار كلمات الجلال، فـ: قلنا يا نار كوني: فذلك من أمر التكوين كما تقدم فحصلت العناية الربانية في أعظم صورها في حق الخليل عليه السلام بنزع قوى الإحراق من النار، أو نزع الشعور بألم الإحراق من الخليل عليه السلام، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك من قبيل ما وقع لحذيفة، رضي الله عنه، يوم الخندق، فـ: "فلما وليت من عنده جعلت كأني أمشي في حمام"، وقد كان البرد آنذاك شديدا، والمنة حاصلة على كلا الوجهين.

فكوني بردا على ضد ما قد طبعت عليه من إحراق وإتلاف، وسلاما: فذلك من الاحتراز فقد يقع الإيلام بالبرد، والطب قد أثبت حدوث بعض أنواع الحروق بالبرد الشديد الذي قد يؤدي إلى بتر الأطراف، وفي جهنم من عذاب الزمهرير، ما قد علم بنص التنزيل: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا)، فالامتنان عليهم بوقايتهم منه يدل بدليل خطابه على حصول التألم به لمن كان على خلافهم من الكفار والمنافقين فذلك من قبيل الطرد والعكس فيدور الحكم مع وصف الإيمان والكفر عدما للزمهرير في الأول ووجودا له في الثاني، وفي حديث اليوم البارد: "لا إلهَ إلا اللهُ ما أشدَّ برد هذا اليومِ اللهم أجِرْنى من زَمْهَرِيرِ جهنمَ".

وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ: فأرادوا به كيدا عظيما، فالتنكير مئنة من التعظيم، فجاء العقاب على ضد ما أرادوا فجعلهم الرب، جل وعلا، بمشيئته النافذة، فالجعل كوني أضيف إلى ضمير الجمع على ما اطرد من التعظيم في مواضع الجلال بإهلاك أعداء المرسلين عليهم السلام، وجاء القصر بتعريف الجزأين إضافيا في معرض المبالغة في تقرير معنى الخسران فضلا عن دلالة اسم التفضيل على المبالغة فهو مبالغة في الخاسر كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ودلالة "أل" على الاستغراق المعنوي المجازي لمعاني الخسران فكأنه لا خاسر إلا هم، واستعيرت الخسارة المحسوسة التي تقع للتجار للخسارة التي لحقت بهم بتسلط أمة الآشوريين عليهم فلم يقع لهم عذاب استئصال عام أو خاص، وإنما جرت عليهم سنة التدافع فسلط الله، عز وجل، عليهم من يستبيح بيضتهم فذلك من جنس تسليط الرب، جل وعلا، الرومان على بني إسرائيل زمن السبي الثاني بعد رفع المسيح عليه السلام عقوبة لهم على سعيهم في دمه عند أعدائه من الرومان الوثنيين، فرفعه الله، عز وجل، إليه، بل وجرى عليهم عين ما أرادوا به، فتسلط عليهم من كانوا يحرضونه عليه، وذلك أبلغ ما يكون في العدل والمكر الإلهي فجزاؤهم من جنس عملهم بل بيد من أغروه بقتل المسيح عليه السلام!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير