تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالعقل، كما تقدم، لا يصلح لمعارضة خبر الوحي بالتكذيب أو التأويل، أو حكمه بالتنحية والتعطيل وتقديم قياس أصحاب الأهواء والأذواق عليه، فتلك، أيضا، سمة رئيسة في مناهج أهل الأهواء، فقياس العقل أول، والوحي بعده في المحل الثاني، فهو المادة الثانية في الدستور الموضوع!، بل قد لا يكون له محل في حقيقة الأمر ففشو الظلم في ممالك الجور على هذا الوجه الذي تجده البشرية الحائرة في زماننا هو أمارة ظاهرة على عزل الوحي وتولية الهوى والذوق بدعوى العقل التي ينتحلها من لا عقل له لو دقق وحقق!، فالعقل قاض بحكمه الصريح باتباع الخبر الصادق وامتثال الحكم العادل، فقد قامت الدلائل القطعية على صحة نسبته إلى رب البرية، جل وعلا، فهو برسم العصمة نازل، فاتباع المعصوم أسلم في الأولى والآخرة من اتباع من لم تثبت عصمته بل ثبت بتناقض أحكامه واختلاف أهوائه بتعدد أصحابه فلكل عقله الشارع!، ثبت بذلك خلوه من فضيلة العصمة التي لا تنال بالاكتساب فلا سبيل إليها إلا محض الاصطفاء، فـ: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)، فيصطفي بقدره الكوني النافذ لكمال سمعه وبصره فهو العليم بمحال عباده فهو أعلم حيث يجعل رسالته فتلك الحكمة البالغة التي تقارن القدرة النافذة في أفعال الرب جل وعلا، يصطفي من شاء من خلقه برسم الرسالة، فاتباع المصطفين الأخيار عليهم السلام خير بداهة من اتباع من نازع الرب جل وعلا ربوبيته فرام تقديم قياس عقله في خبر أو حكم على خبر الوحي الصادق العادل فلا يفعل ذلك إلا من فسد قياس عقله فقدم المرجوح على الراجح، بل قد قدم الباطل المحض الذي لا خير فيه إذ تعدى على مقام الشارع عز وجل على الحق المحض، فـ: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ)، فهو الحق على جهة الاختصاص بخبره وحكمه وغيره الباطل بقياس عقله أو وجدان ذوقه إن عارض به محكم الوحي المنزل من كتاب محفوظ برسم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وذكر شارح برسم: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).

فما خلقت السماوات والأرض باطلا فذلك ظن الذين كفروا، فهو ظن من لم يتضلع من أخبار النبوات وأحكامها، فظن السلامة في غيرها، فهو مزدر بلسان الحال بل وبلسان المقال كحال كثير من الكفار الأصليين وأتباعهم من الزنادقة والمرتدين والعلمانيين، مزدر للوحي مستهزئ بأخباره معطل لأحكامه، لجهله بما جاء به من معاني الصدق والعدل التي لا يصلح الكون إلا بها، فـ: (تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، فالوحي معدن الصلاح العاجل والآجل، ولكن المعرض عن اتباعه برسم الهدى المفتون بتقليد غيره برسم العمى فقد استبدل به كتبا ودساتير فيها من الأخبار المبدلة والأحكام الباطلة ما يفضح عوارها لمن كان له قلب، فالمعرض عنه قد زين له سوء عمله فرآه حسنا، المعرض عنه لخذلان الرب، جل وعلا، له بحرمانه من هداية التوفيق والإلهام وإن قامت عليه الحجة فله ما لغيره من هداية الدلالة والإرشاد، المعرض عنه جحودا وكبرا حتى عمي بصره فلا يرى أدلة الكون المنظور وعميت بصيرته فلا ينتفع بأدلة الشرع المسطور، فـ: (إِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)، المعرض عنه لا يعلم من كماله وفضله ما قد علمه الأنبياء وأتباعهم، فقد شاء الرب، جل وعلا، بقدره الكوني النافذ، أن يكون من أصحاب السعير فهو من حزب أعداء الله ورسالاته، فنفذ فيه العدل الإلهي فليس ممن تفضل عليهم الرب، جل وعلا، بقبول خبر الوحي تصديقا لأخباره وتأويلا لأحكامه.

والشاهد أن جدال المسفسط جدال عقيم فقد عقد العزم على عدم الإيمان، فلا يحسن في حقه إلا المباهلة كما قد صنع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع وفد نصارى نجران بعد أن أقام عليهم الحجة النقلية والعقلية الدامغة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير