تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بفساد عظيم في التصور والرأي فيعتقد الناقص كاملا يتصرف في أمر الكون على جهة المشاركة أو المظاهرة، وذلك مما أبطله التنزيل فـ: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)، فإذا اعتقد ذلك حصل في عقله تصور علمي فاسد يولد رأيا في العقل فاسدا وعملا في الجوارح باطلا، فتلك سلسلة من المتلازمات الضرورية على ما اطرد ذكره مرارا من التلازم الوثيق بين الباطن بعلومه والظاهر بأعماله، وأما الحديث فقد نص على جملة من صور الغلو العملي، وهو، كما تقدم، لازم ضروري للغلو العلمي الباطن، فلا ينفك فساد الباطن بشبهة عن فساد الظاهر بمعاقرة أجناس الشهوات فذلك من التعدي بالزيادة، أو زهد يهجر صاحبه أجناس المباحات فذلك من التعدي بالنقصان، فكل قد وقع في الغلو، فمن غال في الحرام فقبحه ظاهر فقد استمتع بخلاقه برسم التعدي ومجاوزة الحد المشروع، فـ: (اسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) فقرن، جل وعلا، بين الاستمتاع بالخلاق المحسوس فذلك من جنس فساد الظاهر، والخوض في الشبهات العقلية فذلك من جنس فساد الباطن، فالتلازم، كما تقدم، ضروري بين فساد التصور العلمي الباطن وفساد الحكم العملي الظاهر، وإلى هذا التلازم الضروري أشار صاحب "إعلام الموقعين" رحمه الله بقوله: "والمقصود أنه سبحانه جمع بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض بالباطل لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به وهو الخوض أو يقع في العمل بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق، فالأول: البدع، والثاني: اتباع الهوى وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء وبهما كذبت الرسل وعصي الرب ودخلت النار وحلت العقوبات فالأول من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين صاحب هوى فتنه هواه وصاحب دنيا أعجبته دنياه". اهـ

"إعلام الموقعين"، (1/ 113).

ومن غال في الواجب أو المستحب برسم الإحداث في الديانة طرائق يضاهي بها الطرائق الشرعية مبالغة في التعبد والتنسك فذلك حد البدعة الشرعية كما ذكر ذلك صاحب "الاعتصام" رحمه الله، فلسان حال صاحبها: الاستدراك على مقرر الشرائع، جل وعلا، فيعتبر ما ألغاه، ويستحسن ما لم يستحسنه بل قد يستحسن ما قبحه، فذلك من جنس ظن المنافقين: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا).

فالغلو، كما تقدم، يكون في العلوم والأعمال، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، فما وقع أولئك في تلك الصور من الغلو العملي إلا فرعا على تصور علمي فاسد، فقد عارضوا إفراط أصحاب الشهوات في زمانهم، والرهبانية ما ظهرت إلا في كنف الإمبراطورية الرومانية التي كانت تسيطر آنذاك على مقاليد الحكم في بلاد الشام، مهد النصرانية، وهي إمبراطورية وثنية ورثت تراث أمة اليونان المادي فإفراطهم في تناول الشهوات المحسوسة أمر قد اشتهر في تاريخ البشر، فكان الرومان على رسمهم، فضلا عن غلو يهود في معاقرة الشهوات والحرص على الحيوات ولو ذليلة، فـ: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ)، فذلك مئنة من دناءة النفوس وغلظ الأكباد فالهمم قد علقت بتراث الدنيا الفاني، فبعث فيهم المسيح عليه السلام برسم الترقيق بجملة من المواعظ والرقائق لقلوب نعتها: (كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير